أسعد أبو خليل *
بيار لافال كان رجل دولة. لا، بجد، كان قبل الحرب العالمية الثانية يُعتبر بحق رجل دولة. كان ذلك قبل ان يلتصق اسمه باسم تلك المرحلة السوداء في تاريخ فرنسا. وربما نسي البعض أن بيار لافال كان في مرحلة أولى اشتراكياً وانضم الى الاشتراكية الدولية، وحضر مؤتمراتها. لكن لافال مثله مثل الكثير من زئبقيي أهل السياسة تحول من اليسار الى اليمين، هكذا من دون تفسير ولا تسويغ. انها الظروف، وضرورات المعارك الانتخابية. وللنضوج كما للعمل الخاص أحكامه. قد تتفهمون (وتتفهمن). وفي عام 1931، تألق الرجل عندما اختارته مجلة «تايم» «رجل العام»، هكذا مرة واحدة. حيّت فيه نموذجاً جديداً لرجل الدولة. وكان لافال آنذاك معارضاً لألمانيا، وكان يسعى لإقامة حلف ضد ألمانيا. ومشى لافال في تظاهرة أو تظاهرتين في شبابه ضد ألمانيا. لم يتسن لبيار لافال العمل على إصدار قرار خاص من مجلس الامن. لم يكن ذاك الزمن يسمح بذلك. لو أن بيار لافال عاش في زمن غير زمانه. من يدري، فقد كان ليحظى باهتمام أمين عام الامم المتحدة نفسه وتأييده.
وعندما ترك رئاسة الوزارة في منتصف الثلاثينيات انصرف لافال الى العمل الخاص. وكان لافال سابقاً لعصره: إذ إنه بنى امبراطورية اعلامية (صحف وراديو) في ذلك الزمن. كان يريد أن يكون له ضلع في كل وسائل الاعلام، كم وعى أهميتها. لو أن لافال عاش في زمن متقدم لكان تملّك فضائية أو اثنتين أو أكثر. لكان شرح وجهة نظره لأجيال خلفته: «فرنسا أولاً». كان يؤمن بمصلحة فرنسا «العليا». واستعمل لافال ما كان في حوزته من وسائل اعلامية للتأثير على الرأي العام الى درجة انه ساهم في اسقاط حكومة. كان يعرف كيف يؤجج. لو أن لافال عاش في لبنان (ولافال للتذكير ظاهرة فرنسية صرفة لا لبنانية) لكان أتقن لعبة التأجيج الطائفي. لافال، لو أنه كان لبنانياً لبرز زعيماً طائفياً مرموقاً. لافال كان يمكنه أن يُحمل على الأكف. كان يمكن أن نرى صوره تزين ساحات في لبنان، هذا لو كان لبنانياً طبعاً، وهو ــ كما ذكرنا ــ فرنسي الجنسية لا لبنانيّها. وكان لافال يريد لزعيم فرنسا ان يكون قويا. لهذا عمل في داخل الجمعية الوطنية لإعطاء صلاحيات شبه مطلقة (تُسمى في لبنان ربما «صلاحيات استثنائية») للماريشال بيتان. وكان لافال يؤمن بدور خاص لفرنسا. فرنسا، للافال، كانت أكثر من وطن ــ كانت «رسالة».
لكن ماذا يمكن أن تقول عن لافال. قد يسارع البعض الى ادانة بيار لافال. ماذا يمكن أن تقول عن رجل واجه العدوان الأجنبي على بلاده بالكثير من الجبن، بكثير من الخذلان وبكثير من تلك الصفات التي تجتمع في... رجل الدولة. أذعن لافال، كما أذعن غيره. ليس هذا نادراً في تاريخ الشعوب. هناك من يضعف أمام جحافل الاحتلال، من يؤدي تحية للعدو، لو التقى العدو (ربما بالصدفة في حافلة أو في قطار). ولافال، كما أسلفنا، كان رجل دولة. ألم تختره مجلة تايم «رجل العام»؟ وهل هناك من يقرر من يكون رجل الدولة ومن لا يكون أفضل من حكومة أميركا واعلام أميركا؟ هي، تلك المجلة المرموقة، قالت عنه إنه رجل دولة. وهل يمكنك ايها القارئ (والقارئة) العربي ان تقرر أن تحكمَ أنتَ (أو أنتِ) بمميزات رجل الدولة؟ هذا القرار يعود إلى أهل الاختصاص في أميركا بالإضافة إلى فعاليات اقتصادية رفيعة. ليس بالأمر الهيّن. العملية معقدة أكثر من الأحكام في «ستار أكاديمي». لكن هل ظُلم بيار لافال؟ الجواب يتوقف على معايير الحكم والتصنيف. هل المعيار يعتمد على رفض العدوان والاحتلال الأجنبي؟ إذ ان هناك في فرنسا ــ وقد يصعب التصديق ــ من كان متواطئاً ومتعاوناً مع الاحتلال الأجنبي. هناك من صمت ومن تواطأ ومن تعاون ومن سهّل ومن أخبر... أثناء الحقبة النازية. هناك من كان يشير بالبنان إلى منازل المقاومين لخدمة الاحتلال. تصوروا (وتصورن) ان هناك في فرنسا من كان يشكك في حق الشعب الفرنسي في المقاومة، لا بل إن هناك ــ في فرنسا طبعاً ــ من انتقد المقاومة أكثر من انتقاده للاحتلال والعدوان الأجنبي. كان البعض يقول للمقاومين إنهم يجلبون الدمار والخراب على البلد. هناك (في فرنسا طبعاً، فالحديث هنا عن فرنسا) من وجد في المقاومة (لا في العدوان والاحتلال الأجنبي) مصدر قلق وقلاقل. هناك من كان يرغب في وقف المقاومة كلياً، وفي نزع سلاحها خدمة للمحتل النازي. هؤلاء، كل هؤلاء، وجدوا في بيار لافال رجل دولة. مات بيار لافال. لا حاجة إلى إصدار أحكام جديدة.
* بروفسور العلوم السياسية في جامعة ولاية كاليفورنيا ــ ستانسلاس وبروفسور زائر في جامعة كاليفورنيا في بيركلي