جلبير أشقر *
المقتطفات التالية مأخوذة من خاتمة كتاب «قوة خطيرة: الشرق الأوسط والسياسة الخارجية الأميركية» الذي كتبه نعوم تشومسكي وجيلبير أشقر. وقد وضع ستيفان شالوم مقدمة هذا الكتاب الذي ستنشره شركة «بارادايم بابليشرز» في 15 أيلول 2006.
لطالما حذرت مع آخرين عديدين من أن الورقة الرابحة الوحيدة في يد واشنطن ستكون النعرات المذهبية والعرقية بين العراقيين التي تستغلها إدارة بوش على نحو شديد الوقاحة ووفقاً لأكثر الوصفات الإمبريالية قدماً وهي «فرّق تسد». وهذه الوصفة هي التي بذل «الولاة» الأميركيون على العراق من بول بريمر إلى خليل زاده كل جهودهم لتحقيقها والاستفادة منها. من هذا المنظار فإن تأجيج أو تصاعد التوتر المذهبي في العراق هو نعمة إلهية في نظر واشنطن، حتى ان عدداً كبيراً من العراقيين يشتبهون بأن تكون أجهزة الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية هي التي تقف وراء أسوأ الاعتداءات المذهبية التي تشهدها البلاد. لاحظ كيف أن الاحتلال يبدو «مشرّعاً» الآن لأن عدداً كبيراً من العرب السنّة في مناطق عراقية مختلطة من الذين يشعرون بالقلق، يطالبون بوجود قوات أجنبية لضمان أمنهم لأنهم لا يثقون مطلقاً بالقوات العراقية المسلحة (3). والمفارقة ان العرب السنّة كانوا وما زالوا القاعدة الرئيسية لحركة التمرد المسلحة ضد الإحتلال ـ ولكنهم ليسوا القاعدة الوحيدة: فقد تصاعدت وتيرة الأعمال العسكرية المناهضة للاحتلال في جنوب العراق، غير أن هذا التطور بالكاد ما تشير إليه وسائل الإعلام الغربية أو حتى العربية.
غير ان واشنطن تلعب بالنار: فالنزاع المذهبي لا يناسب مخططاتها إلاّ إذا بقي ضمن حدود معينة، إذ ليس في مصلحة واشنطن أن ينقسم العراق إلى ثلاثة أجزاء مستقلة مثلما يروّج بوقاحة بعض «الخبراء» المزعومين في وسائل الإعلام الأميركية، هذا التقسيم الذي يعتقد المحافظون الجدد وأصدقاؤهم أنه سيكون ثاني أفضل نتيجة تحققها الحرب إذا ما أخفقت واشنطن في إحكام سيطرتها الكاملة على عراق موحد. لكن مثل هذا الأمر لن يشكل وصفة لحرب أهلية طويلة الأمد فحسب بل من شأنه أن يجعل السيطرة الأميركية على منابع النفط العراقية الواقعة في الجنوب ذات الغالبية الشيعية، أمراً أصعب. لذلك فإن مصلحة واشنطن تقتضي تسعير التوتر المذهبي إلى مستوى يمكن السيطرة عليه ويستطيع أن يخدم شعار «فرّق تسد»، من دون السماح لهذا التوتر بالخروج عن السيطرة والتطور إلى حرب أهلية خطيرة. فإن قيام عراق فيدرالي ذات حكومة مركزية هشة لا يتناسب مع هذا السيناريو، إلاّ إذا تم قبوله من اللاعبين العراقيين الرئيسيين (وهو أمر صعب جداً). أما تشظي العراق وانقسامه فقد يتحول إلى كارثة خصوصاً إذا ما أدى إلى إطلاق دينامية إقليمية خطيرة. (فلنتصور ماذا سيحل بالمنطقة الشرقية في المملكة السعودية ذات الغالبية الشيعية حيث تقع معظم منابع النفط). وإذا ما شبه أحد اليوم القوات الأميركية في العراق برجال الإطفاء، فلا يسعنا القول إلاّ أن من يقودهم هي مجموعة خطيرة من مشعلي الحرائق! فمنذ الأيام الأولى للاحتلال، تدهور الوضع في العراق بشكل مضطرد: هذه هي الحقيقة الأكيدة التي لا يمكن أن ينفيها أحد سوى أولئك المنافقين الوقحين في واشنطن الذين يصرون على ان الوضع في تحسن مستمر بالرغم من الأدّلة الفاقعة التي تثبت عكس ذلك.
في الواقع ان العراق عالق في حلقة مفرغة: فالاحتلال يغذي التمرّد الذي بدوره يؤجج التوتر المذهبي الذي يجهد «ولاة» لتسعيره بوسائل سياسية، وهذا التوتر يستخدم بدوره لتبرير استمرار الاحتلال. لا بد من الإشارة هنا إلى ان الأسلوب الأحدث الذي استخدمته سلطات الاحتلال الأميركي لصبّ الزيت على النار العراقية، هو، بحسب مصادر شيعية، مساعدتها للحزب الإسلامي ـ المجموعة العراقية العربية السنّية المقربة من واشنطن ومن السعوديين ـ لتشكيل جناح مسلح بدأ بلعب دوراً في التوتر المذهبي.
ليس هناك سبيل للخروج من هذه الحلقة المفرغة الحارقة سوى الإعلان فوراً عن انسحاب كامل وغير مشروط للقوات الأميركية، وهذه الخطوة ستكون حاسمة باتجاه إخماد النار العراقية. فمن شأنها التخفيف من حدة التمرّد السنّي الذي تعهدت «هيئة العلماء المسلمين» بدعوته إلى التوقف حالما يتم الإعلان عن جدول زمني لانسحاب قوات الاحتلال. كما ستساهم هذه الخطوة في تقليص أجواء التوتر المذهبي حيث يضطر العراقيون إلى التفكير جدياً بمستقبلهم ويشعرون بحاجة ماسة إلى التوصل إلى صيغة للتعايش السلمي. وإذا ما استنتجوا بأنهم بحاجة إلى وجود أجنبي لفترة وجيزة من أجل مساعدتهم على إعادة إحلال النظام والمباشرة بعملية إعادة إعمار حقيقية، فيجب ألا يكون هذا الوجود مؤلفا من قوات تنتمي إلى دول لديها مطامع للسيطرة على العراق بل أن تكون قوة مرّحب بها من جميع فئات الشعب العراقي على أنها ستقدم مساعدة ودية بعيداً عن المصالح الخاصة.
(3) ـ هذا التحليل أكده إدوارد وونغ ودكستر فيلكنز في مقالتهما التي نشرت في «نيويورك تايمز» في 17 تموز 2006 تحت عنوان «في تغيير مفاجئ، السنّة يرغبون في بقاء الأميركيين في العراق».
(حلقة ثانية وأخيرة)
* باحث لبناني في العلاقات الدولية