بيتر هارلينغ *
أما في البصرة، فيؤدي التنافس القائم بين مختلف الميليشيات إلى تهميش المؤسسات المحلية وتجريدها من الموارد. وفي الديوانية، دخل جيش المهدي هذا الأسبوع في مواجهة مباشرة مع الجيش الوطني العراقي، الأمر الذي أسفر عن سقوط أكثر من 25 قتيلاً في صفوف هذا الأخير. كل ذلك يـــــدفع إلى الاعــتــــــقاد أنه يســــــتحيل في النهاية احتواء أعـــمال العــــنف هـــذه إلّا بــــوجود قــــوات التحالف في العراق.
إن الأوساط الشيعية تتعرض لهجمات لا يعلن أحد المسؤولية عن الكثير منها، فيما تعلن مجموعات مجهولة مسؤوليتها عن بعضها الآخر، مجموعات مثل كتائب أهل الحق وكتاب الإمام الحسين التي تعتبر هويتها أكثر غموضاً من هوية كبرى المجموعات التابعة للمعارضة السنيّة المسلحة. فإذا كانت هذه المجموعات «المجهولة» تشكل واجهة للميليشيات والحركات التي لها وزنها في الشارع العراقي، فهذا يعني أن هذه الأخيرة تحرص على تفادي المواجهة المفتوحة. من جهتهم تبنى الصدريون علناً سياسة استراتيجية تقوم على تفادي مواجهة القوات الأميركية، بينما عمدوا إلى تحميل المسؤولية عن العمليات ذات الطابع المذهبي إلى عناصر زعموا أنها تدّعي الانتماء إلى جيش المهدي. لذلك يمكن القول إن السيطرة التي يمارسها الأئمة أمثال مقتدى الصدر أو مصطفى اليعقوبي، زعيم حزب الفضيلة، على أنصارهم محدودة جداً في ظل تنامي رقعة العنف على نحو عفوي وغير مركزي.
تعدّ الميليشيات إذاً مشكلة جوهرية، وتشكل في الوقت نفسه كيانات صعبة الاحتواء. وهذا ما يفسّر فشل العمليات العسكرية الأميركية الهادفة إلى استئصال ما تراه قوات التحالف عناصر إجرامية أو إلى القضاء على المظاهر الميليشياوية الأكثر وضوحاً مثل الحواجز البربرية. فـ«العناصر» المجرمة تجد بدائل عنها بسهولة، بينما يكفي البنى التحتية للميليشيات أن تتوارى فترة من الزمن لتصبح منسيّة.
إن سعي الإدارة الأميركية لتصوير مقتدى الصدر على أنه «العدو الشيعي رقم 1» الجديد يعود تكراراً إلى الخطأ الأميركي في تحديد الهدف. فتقديم ظاهرة الميليشيات على أنها العقبة الأساسية أمام تعزيز دعائم الدولة هو أشبه بـ«وضع العربة أمام الحصان» بمعنى أن إقامة دولة بكل ما في الكلمة من معنى ليست سوى الشرط المسبق للقضاء على الميليشيات وليست نتيجة لها.
من الأفضـــل إذاً اعــــتماد مقاربة تدريجية تقوم بداية على حصر دور الميليشيات بما تدّعـــيه أي «حماية المواطنين»، وذلك بالتــــزامن مــــع قمع عمليات القتل المــــــذهبي والاغتـــالات الســـيـــاسية وعــــــمليات الســـطو على مصادر الــــثروة العـــــائدة إلى الـــــــدولة، والـــقضاء على الحواجـــز البربرية وغيرها. وبعــــــد ذلك فـــــإن أية محاولة لـــــنزع أســـــــلحة المــــــيليشيات بالقــــــوة ضمـــن مناطق محــددة، تفترض بأن تكــــــون لدى الدولة الوسائل المــــناسبة لفرض سيطرتها على تلك المناطق، وخصوصاً في مجالات الأمن والعدل وأيضاً على صــــــعيد التـــــنمية الاقتـــــصادية المــــــتوازنة.
في الختام، لا يمكن القضاء على مشكلة الميليشيات إلا بقيام دولة القانون. إلا أن العائق الرئيسي أمام إقامة مثل هذه الدولة هو الميل الأميركي نحو التركيز على ملاحقة «أعداء» مشروع «دمقرطة» العراق، بــــــدلاً من انتهاج سياسة أكثر شفافية وثباتاً تهدف إلى بناء المـــؤسسات التي لا يمكن للديموقراطية أن تقوم من دونها.
(حلقة ثانية وأخيرة)
* مدير مكتب «مجموعة الأزمات الدولية» - بيروت