عصام نعمان *
تعصف بلبنان أزمة وطنية متفاقمة ذات جوانب سياسية ودستورية وطائفية متشابكة، وهي أزمة مرشحة لمزيد من التعقيد. فحكومة فؤاد السنيورة تتمادى في تجاوز أحكام الدستور وخرق ميثاق العيش المشترك، وقوى المعارضة تؤكد عزمها على النزول إلى الشارع احتجاجاً على ذلك، والتزاماً بإنقاذ البـلاد من ممارسات حكومة السنيورة اللادستورية واستئثارها، ومن أجل تأليف حكومة وحدة وطنية، ووضع قانون ديموقراطي عادل للانتخاب، وإجراء انتخابات نيابية مبكرة.
في ضوء ذلك تطرح الأزمة المستفحلة أسئلة ثلاثة رئيسية: هل يمكن إقالة حكومة السنيورة لخرقها الدستور؟ كيف يمكن شرعنة تدابير إجرائية استثنائية ذات طابع دستوري قد تصـدر في سياق الانتفاضة الشعبية لقوى المعارضة؟ وما ردود الفعل المتوقعـة، إقليمياً ودولياً، على الانتفاضة الشعبية، وانعكاسها تالياً على حاضر لبنان ومستقبله؟
كانت حكومة السنيورة قد ارتكبت منذ تأليفها خمس مخالفات دستورية جسيمة على النحو الآتي:
أولاً، قيامها بتعطيل المجلس الدستوري بامتناعها عن تعيين قضاة لملء مراكزه الشاغرة، وهو الأمر الذي عطّل إمكان الطعن بدستورية القوانين من جهة، والبت في الطعون الانتخابية النيابية العالقة من جهة أخرى.
ثانياً، قيامها بتعيين وزير الشباب والرياضة الدكتور أحمد فتفت وزيراً للداخلية بالوكالة مع عدم بتّ استقالة وزير الداخلية الأصيل العميد حسن السبع، الموجود في البلاد، وبصحة جيدة، وتقاضيه التعويضات «المتوجبة» له قانوناً، وهو الأمـر الذي يتعارض مع روح المادة 66 من الدستور ومع الأعراف الدستورية النافذة. ثم قيامها، عقب استقالة الوزراء الشيعة الخمسة، وبعد مرور نحو عشرة أشهر على استقالة الوزير السبع، بتمكينه من العودة إلى ممارسة مهامه في وزارة الداخلية وكأن شيئاً لم يكن.
ثالثاً، قيامها بمعزل عن رئيس الجمهورية بمفاوضة الأمم المتحدة في شأن عقد اتفاق بإنشاء محكمة خاصة لمحاكمة قتلة المرحوم رفيق الحريري له صفة المعاهدة الدولية، خلافاً لمنطوق المادة 52 من الدستور التــي تقضي بـأن «يتولى رئيس الجمهورية المفاوضة في عقـد المعاهدات الدولية وإبرامها بالاتفاق مع رئيس الحكومة».
رابعاً، قيامها رغم اعــــــــــتراض رئيس الجمهورية وجميع رؤساء الحكومة السابقين، ورئيس مجلس النواب، وكثرة من النواب الحاليين والسابقــــــــــين ورؤســــــــــاء الطوائف والفقهاء الدستوريين والقوى السياسية والاجتماعية، بعقد جلسات لمجلس الوزراء بعد أن فقدت شرعيتها الوطنــــــــــــية والدستورية نتيجةَ استقــــــــــالة جــــــــــميع الوزراء المسلمين الشيعة (خمسة) واستقالة وزير مسيحي أرثوذكسي تضامناً معهم، وإصرارها، مع ذلك، على اتخاذ قرارات أساسية بمنطـــــوق المـــــــــــادة 65 في فقرتها الخامسة من الدستور .
خامساً، مخالفتها مرةً أخرى، رغم اعتراض رئيس الجمهورية، المادة 52 من الدستور بإحالة مسوّدة الاتفاق المتعلق بالمحكمة الدولية، المرسلة من طرف الأمانة العامة للأمم المتحدة، على مجلس الوزراء وإقرارها. مع العلم أن المادة 52 لا تُولي رئيس الجمهورية صلاحية المفاوضة في عقد المعاهدات الدولية فحسب، بل في إبرامها أيضاً بالاتفاق مع رئيس الحكومة، بمعنى أنه لا يحق لرئيس الحكومة منفرداً إحالة المعاهدة الجاري التفاوض في شأنها على مجلس الوزراء.
فوق ذلك، قامت الحكومة، بشخص رئيسها أحياناً، وبمعظم أعضائها دائماً، بمقاطعة رئيس الجمهورية وتهميشه ورفض التنسيق معه رغم كونه، بموجب المادة 49 من الدستـور،
«رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن»، الأمر الذي يتعارض أيضاً مع الممارسة والعُرف الدستوريين.
يزداد الوضع الدستوري الإشكالي للحكومة تعقيداً بوجود أكثرية نيابية مريحة تؤيدها، وهو ما يحول بين المعارضة وإعمال المادة 70 من الدستور التي تنص على صلاحية مجلس النواب في اتهام رئيس مجلس الوزراء والوزراء بإخلالهم بالواجبات المترتبة عليهم، وبالتالي الحؤول دون إمكان محاكمتهم أمام المجلس الأعلى سنداً للمادة 71 من الدستور.
إذ تبدو حكومة السنيورة متلبّسة بخرق الدستور نصاً وروحاً على النحو المبيّن آنفاً، فإن تفاقم السخط الشعبي عليها من جهة ومخاطر مضاعفاته السياسية والأمنية من جهة أخرى تطرح على المعارضة سؤالاً جدّياً: هل بإمكان رئيس الجمهورية إقالة حكومة السنيورة إنقاذاً للوحدة الوطنية وتفادياً لارتكابها المزيد من المخالفات الدستورية وإلحاقها الضرر بالبلاد والعباد، اقتصادياً واجتماعياً؟
ليس في المادة 69 من الدستور نص صريح يجيز لرئيس الجمهورية إقالة حكومة فاقدة الشرعية سنداً للفقرة «ي» مـن أحكام الدستور الأساسية القائلة: «لا شرعية لأيّ سلطة مناقضة لميثاق العيش المشترك». غير أن اتفاق رؤساء الحكومة السابقين ورئيس مجلس النواب وكثرة من النواب الحاليين والسابقين ورؤساء الطوائف والفقهاء الدستوريين والقوى السياسية والاجتماعية على أن الحكومة فقدت شرعيتها، وأن ذاك اقترن بجوّ عارم من السخط الشعبي والخشية المتعاظمة من مضاعفات النزول إلى الشارع والأضرار الاقتصادية والاجتماعية المحتمل وقــــــــــوعها، ذلك كله يدفع إلى الواجهة رأياً مفاده أن الظرف الاستثنائي يجيز اتخاذ تدبير استثنائي لتفادي المخاطر والأضرار الفادحة المحتملة. أما التدبيـــــــــر الاستثنائي فهو الاجتهاد، في معرض غياب النص الدستوري الصريح، بجواز اعتبار الحكومة بحكم المستقيلة بعد استقــــــــــالة الوزراء الشيعة الخمسة وتحولها إلى سلطة مناقــــــــــضـــــــــة للعيش المشترك، وخصوصاً مع إصرار رئيس الحكومة علـى «رفض» استقالة الوزراء الخمسة لتبرير التئام مجلس الوزراء بغية اتخاذ قرارات أســـــــاسية مخالفة للمادة 52 من الدستور.
من المنطقي والشرعي، والحال هذه، ممارسة ضغط شعبي على الحكومة وفريقها لحملهما على التسليم بوجوب استقالتها والقبول تالياً بتأليف حكومة وحدة وطنية انتقالية من أجل وضع قانون انتخاب ديموقراطي عادل على أساس النسبية ولإجراء انتخابات نيابية مبكرة. وفي حال رفضِ حكومة السنيورة وفريقها هذه الآلية، فلقوى المعارضة أن تعتبر حكومة السنيورة فاقدة الشرعية، وبالتالي بحكم المستقيلة سنداً للفقرة «ي» مـن أحكام الدستور الأساسية، ودعوة رئيس الجمهورية لإصدار مرسوم باعتبار الحكومة بحكم المستقيلة، وبإجراء استشارات نيابية، يسمّي في ضوئها رئيساً للحكومة مكلفاً تأليفها، ويصدر تالياً بالاتفاق معه مرسوم تشكيل الحكومة الجديدة سنداً للمادة 53 بفقراتها الثانية والثالثة والرابعة من الدستور.
سينشأ، في هذه الحال، وضع دستوري وسياسي ملتبس نتيجة هذا التدبير الاستثنائي، إذ سيرفضه السنيورة وقوى 14 آذار، وسيجد المواطنون كما دول العالم حكومتين في لبنان تتنازعان السلطة. غير أن الحكومة الجديدة ستكون بالتأكيد في مركز أقوى من حكومة السنيورة، لكون قوى المعارضة قادرة ــ إذا اقتضى الأمر ــ على نشر عشرات الألوف من أنصارها وبالتالي السيطرة على أكثر من 80 في المئة من مساحة البلاد الجغرافية ومرافقها العامة، كما ستكون في وضع أفضل للضغط على السنيورة وقوى 14 آذار من أجل التسليم بضرورة تأليف حكومة وحدة وطنية بصلاحيات استثنائية تحلّ محل الحكومتين وتقوم بوضع قانون ديموقراطي عادل للانتخابات، تصدره بموجب مرسوم اشتراعي وتجري الانتخابات على أساسه، فتنبثق من المجلس النيابي الجديد حكومة جديدة، وينتخب المجلس النيابي تالياً رئيساً جديداً للجمهورية حسب أحكام الدستور.
إذا رفض السنيورة وقوى 14 آذار، خلال مهلة أقصاها شهر من تاريخ تأليف حكومة بديلـة من حكومته على النحو المبين آنفاً، الموافقة على إقامة حكومة وحدة وطنية جامعة لتحلّ محل الحكومتين الآنفتي الذكر، فلا يبقى أمام الحكومة الوطنية الجامعة التي تكون المعارضة قد ألّفتها إلا المبادرة إلى دعوة مجلس النواب لعقد دورتين استثنائيتين متواليتين بين الأول من كانون الثانـي ومنتصـف آذار 2007، من أجل طرح الثقة بنفسها ومناقشة قضايا ومشاريع قوانين إصلاحية متوجبة. وفي حال إخفاق مجلس النواب في الانعقاد ــ وهو الأمر المرجح في ظل الظروف الاستثنائية الراهنة وعدم اعتراف نواب قوى 14 آذار بالإجراءات الدستورية المتخذة ــ تقوم الحكومـة الجديدة عندئذٍ بحلّه سنداً للمادة 65 فقرتها الرابعة من الدستور، وبدعوة الهيئات الانتخابية وفقاً لأحكام المادة 25 من الدستور لانتخاب مجلس نواب جديد تحت رقابة منظمات عالمية غير حكومية تعنى بحقوق الإنسان وبديموقراطية الانتخابات. وإذا تعذَّر على الحكومة الجديدة إجراء الانتخابات في كل المناطق اللبنانية، بل في معظمها، فيصار إذ ذاك إلى استكمال الانتخابات في موعد أو مواعيد لاحقة في ضوء مقتضيات الأمن والسلامة العامة.
تكون للتدابير المارّ ذكرها مشروعية دستورية عندما تتخذها حكومة قائمة في ظل ظروف استثنائية تمرّ بهـا البلاد. فالظروف الاستثنائية تتطلب غالباً حلولاً أو تدابير استثنائية. وثمة اجتهادات عدّة لمجلس الدولة الفرنسي شرعنت تدابير استثنائية كانت سلطات الأمر الواقـع (منظمات المقاومة) قد اتخذتها إبّان الاحتلال الألماني النازي لفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية. ولعل الأهم من هذا كله أن وجود رئيس الجمهورية خلال هذه الفترة واستمرار ولايته لغايـة 24 تشرين الثانـي / نوفمبر 2007 سيقلّص مخاطر تقسيم البلاد ويساعد في تحييد الجيش اللبناني بين الفريقين المتصارعين، ويحفظ وحدة الدولة والبلاد .
تبقى مسألة ردود الفعل الإقليمية والدولية على الانتفاضة الشعبية المرتقبة وعلى التدابير الإجرائية الاستثنائية التي ستتخذها المعارضة بالاتفاق مع رئيس الجمهورية. الأرجح أن لا تتورط الولايات المتحدة وفرنسا عسكرياً في دعم حكومة السنيورة والقوى المساندة لها أو في مدّها وفريقها بالسلاح والعتاد، مخافة أن تفتح بذلك الباب لسوريا وإيران للقيام بعمل مماثل لمصلحة قوى المعارضة. ولعل موقف أميركا الفعلي في هذا الصدد يمكن استشفافه من تصريح الناطق باسم وزارة خارجيتها طوم كايسي بتاريخ 20/11/2006 . فقد أبدى كايسي عدم معارضة حكومته نزول قوى المعارضة إلى الشارع مع الإشارة إلى «أن أي تعبير عن الرأي السياسي يجـب أن يتم بطريقة سلمية ووفقاً لقوانين البلاد، وليس بهدف ترهيب الآخرين» . هذا التصريح يشير إلى أن واشنطن ستنصح على الأرجح أصدقاءها في قوى 14 آذار بالتزام ضبط النفس والهدوء والمرونة، وربما القبول أيضاً ببعض مطالب المعارضة .
بقي أن تستفيد قوى المعارضة، بل اللبنانيون جميعاً، من التوازن النسبي الراهن في موازين القوى الإقليمية والدولية من أجل الخروج من أزمتنا المزمنــة بـِ«تسوية تاريخية» تكفل انتقال لبنان من النظام الطوائفي المركنتيلي الفاسد إلى الدولة الديموقراطية القوية المبنية على حكم القانون والمؤسسات والعدالة والتنمية المستدامة .
* وزير لبناني سابق