ديمة ونوس *
قبل بداية الحرب على العراق، كان معظم زعماء العالم العربي يقفون ضدها ضمناً، لما تشكله من خطر على أنظمتهم. من جهة أخرى، لم يكن لمصلحة أي نظام عربي أن تبلبل الفوضى العراق وبالتالي تشعل شرارة التمرد لدى شعوبهم. وربما تكون الفائدة الوحيدة التي جناها العرب من هذه الحرب، هي مثال العراق البالغ السوء والخطورة الذي يستخدمه الزعماء لإرهاب شعوبهم من خطر الدخول الأميركي.
بعد الحرب بسنوات، صار المسؤولون العرب يتحدثون عن الفوضى الأمنية في العراق والنزعة الطائفية والعشائرية والمد الإسلامي المرعب. يتحدثون عن عنف الشارع العراقي الذي جاءت به القوات الأميركية لدى دخولها العراق واحتلالها له وكسرها هيبة الرئيس الديكتاتور صدام حسين. للأسف، لم يتحدث المسؤولون عن ثلاثين سنة من التنكيل اليومي بهذا الشعب. ثلاثون سنة جعلت من الشعب العراقي كتلة ملتهبة من العنف والتمرد. ثلاثون سنة من القمع الممزوج بالدماء، ساهمت وحدها في تفجير ذلك الكبت المعتمل في أرواح الشعب العراقي الذي لم يغادر البلاد.
كما هي حال معظم الشعوب العربية، كان الشعب العراقي محروماً لسنوات طويلة من أدنى حقوقه الإنسانية. لا أحزاب خارج الحزب الحاكم. العمل السياسي ممنوع. أي شكل من أشكال الإبداع ممنوع. التكتلات ممنوعة والتظاهر والاعتصام والتمرد. لا حياة إنسانية في العراق. ثلاثون سنة مكرسة بأكملها لتمجيد القائد والتغزل بمنجزاته التاريخية، ومنجزات ولديه المتخلفين. مكرسة لقتل كل معارض أو موالٍ مشكوك في ولائه. جيل وأجيال ولدت في العراق لتخشى الموت والذل والتعذيب. كمعظم أطفال الوطن العربي، كان أطفال العراق يتعلمون في المدارس حب القائد وتخليد اسمه وصوره وصور عائلته. يحفظون التاريخ المجيد الذي صنعته البطولات العربية ويرددون أهداف الأمة. أطفال رضعوا لغة التخويف والإجرام. شاهدوا بأعينهم المنمنمة والوديعة أحد أفراد عائلتهم أو عائلتهم بأسرها تُقتل وتنزف دماً وتُباد لمجرد كرهها غير المعلن لقائد الأمة.
هذا الشعب العراقي الذي يشبه كل الشعوب العربية، لم يتعلم أي لغة تمتّ للإنسانية بصلة. لا توجد في قاموسه الأسود كلمات التظاهر السلمي أو الرأي والرأي الآخر أو الاختلاف أو الحوار أو الحضارة المدنية. شعب قُمعت كل مبادراته وكل قدراته، لا يمكنه في البداية إلا أن يرحّب ضمناً بدخول الأميركيين، لا يمكنه بعد دخولهم إلا أن يعبّر عن انتماءاته بالعنف والدماء. باختصار، شعب اعتاد رائحة الذل والقهر. منذ أيام، كتب السيد فيصل القاسم الإعلامي السوري المعروف عن حاجة العراق ولبنان إلى ديكتاتور ينقذ الفوضى الطائفية. لماذا لم يفكر الدكتور في حاجة هذين البلدين ومعظم البلاد العربية الأخرى إلى نظام ديموقراطي حضاري يقبل بوجود الآخر وبالحوار معه. لماذا غيّب سنوات الانغلاق التي لم تساعد الشعوب على التحضر ولم تعلّم مفاهيم مدنية وحضارية. كلنا نعرف ما سببته القوات الأميركية من خراب في العراق. كلنا نعرف نيات الرئيس الأميركي التوسعية والنفطية. لكن وجود صدام حسين في العراق، وتمسكه بمنصبه لسنوات، وأمراضه النفسية السلطوية، وسيطرته على كل حبة رمل في العراق، وتبديده ثروات الشعب، هي الأسباب الأكثر واقعية لتخريب جيل كامل من العراقيين فجعلته يفوق نظامه عنفاً وتخلفاً وقمعاً. إن شغف الدكتور فيصل القاسم بالديكتاتورية يشبه إلى حد كبير شغف الزعماء العرب بالتمسك بعروشهم لسنوات بحجة أن شعوبهم المتخلفة لا تستحق الديموقراطية. بحجة أن الحذاء العسكري هو الوسيلة الوحيدة للسيطرة على همجية هذه الشعوب. وكأن الشعب العربي ولد متخلفاً وهمجياً. وكأن صدام حسين لم يساهم في قمع أي انفتاح أو وعي أو إدراك.
في العراق وفي معظم البلاد العربية، ساهم الحذاء العسكري في جعل التشدد والأصولية هما المخرج الأكثر سلامة للعيش. أما القمع والانغلاق فساهما بقتل جينات الإبداع والتحرر لدى الشرائح كافة. لو كانت الأنظمة العربية تمارس أدنى درجات الشفافية والانفتاح، لو كانت تؤمن بحرية شعوبها، لو كانت تحارب الفساد والقائمين عليه من أعوانها، لو أن الديموقراطية هي التربية التي تتبنّاها تلك الأنظمة في حكمها، لكانت الشعوب العربية هي أول من يقف ضد دخول الأميركيين إلى المنطقة. ولكانت النخبة المهمشة والمقموعة من المثقفين والمفكرين والمعارضين، تدافع الآن عن أنظمتها بالقلم والإبداع وبكل أشكال المقاومة السلمية والحضارية.
* كاتبة سورية