لقمان سليم *
لا حياء في الدين ولا في غيره: لست ممن سرّهم «الفشل» الأميركي في العراق وفي سواه من بلدان المنطقة ــ لبنان ضمناً ــ ولا ممن يسرهم أن يتمادى هذا الفشل في الزمان والمكان، ولا ممن سوف يسرهم ألا يبقى للولايات المتحدة، تداركاً لمزيد من الفشل وحرصاً على مصالحها العليا، سوى تقليص تدخّلها، أو قل إعادة صياغة مفردات هذا التدخل وأدواته. كذلك فليس انحيازي إلى حزب القائلين بأن الاستراتيجية الأميركية الجديدة في العراق، ومن العراق في كل الاتجاهات، على ما رسم خطوطها العريضة الرئيس بوش، ليس انحيازي إلى حزب القائلين بأن النجاح، على الأرجح الأرجح، لن يكتب لها من باب الشماتة الاستباقية ولا هو على سبيل سوء الظن المنسوب إلى بعض الفطن، مع التذكير، إن لم يكن من التذكير بد، بأن الحزب المذكور، حزب القائلين بفشلها ــ والفشل في العراق قلة الانتصار ــ لا يقتصر على المجاهرين بعدائهم لـما يفترضونه «المشروع الأميركي» من عرب وعجم بل يضوي تحت جناحه أميركيين لا يقلّون في ولائهم الجمهوري عن الرئيس بوش نفسه.
مقول القول أن توقّع الفشل، ولربما الفشل الذريع، لهذه الاستراتيجية، ليس حكماً وبالضرورة مسايرة لما تمليه موجبات استقامة سياسية شائعة لحمتها وسداها العداء للولايات المتحدة وسياساتها، بل لعل هذا التوقع ما هو إلا توجس مما قد يتأتى من هذا الفشل في العراق وحوله.
فإلى كل ما سيق عن الاستراتيجية الجديدة من مآخذ، سواء على ألسنة المريدين أو المبغضين، يبقى أن مقتلها هو في أنها ترهن «سمعة» الولايات المتحدة، «صورتها» بلغة أهل صناعة الإعلان، باستحقاق أمني موضعي اعترف الرئيس بوش نفسه بأن النجاح فيه ليس بالأمر السهل والمضمون ولا هو، حتى إن تحقق، بالانتصار المؤزّر الذي يمكن الولايات المتحدة من بعده أن تعتبر أنها أدت في حق مواطنيها وحق العراقيين وبرسم انتباه من يهمهم الأمر في الشرق الأوسط، أنها أدت قسطها للعلى...
لعله لا قياس وتشبيه ممكنين، ولكن مطالعة الرئيس بوش في شأن بغداد وتعليقه صدقية الولايات المتحدة على إحلال الأمن في العاصمة العراقية وضواحيها، لا يخلوان من التذكير بموقف الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان الذي اعتبر ذات يوم من خريف عام 1983 أن بلدة سوق الغرب اللبنانية ذات أهمية استراتيجية بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية، وبعدما أمر بوارج الأسطول السادس بالتدخل للحيلولة دون سقوطها، كان ما كان مما لا يحبّذ أحد من اللبنانيين والأميركيين ذكره وتذكّره.
وإنْ يخلع المرء لباس الأدب، وهو لباس يمكن خلعه من حين إلى آخر، فلا بد من التسليم سلفاً بأن العراق والعراقيين، بلحاظ ما يكابدون من عنف مُتبادل لم يُنْزل به كتاب ولا سلطان، أقلّنا ترشّحاً لأن يروا في فشل الاستراتيجية الأميركية الجديدة فشلاً بكل معنى الكلمة. فمنذ 2006، بحسب تقويم الرئيس بوش وعلى ما أقر صراحة في الفقرة الثالثة من خطابه، استعلت «استراتيجية» أعداء الولايات المتحدة وكان من جراء استعلائها هذا أن انزلق العراق إلى دوامة متصلة من العنف المذهبي تجعل الوضع السائد فيه «غير مقبول» حد اضطرار الولايات المتحدة، بلسان رئيسها، إلى اعتبار أن إعادة النظر في استراتيجيتها أمراً لا معدى عنه ولا مهرب.
كذلك، إن تفشل الاستراتيجية الجديدة في تحقيق أهدافها فلن يتغير الأمر على العراقيين كثيراً ما داموا، عملياً، سيعيشون نتائج فشل الاستراتيجية السابقة... ثقيل أن يذهب المرء إلى هذا الحد من «التوحش»، وألا يزيد تفشي القتل والاقتتال عنده على أن يكون «أمراً» لا أكثر ولا أقل، ولكن هذا «التوحش» في مقاربة ذاك «التوحش» يبرع فيه بعض العراقيين، ولا يمكن في حال من الأحوال نسبته إلى الغرير الأميركي، ويظهر في التعاتب بالسيارات المفخخة وجز الرؤوس وحملات التطهير المذهبي. على هذا المعنى يستقيم القول بأن العراق، ولو أنه مسرح العمليات، حقيقة ومجازاً، لن يتسع لما قد ينتظر الاستراتيجية الجديدة من فشل. وعلى هذا المعنى أيضاً، ولأن العراق اليوم في قلب الصراع المفتوح الذي يكنّي القاموس الأميركي قطبه الإقليمي الحليف بـ«محور الاعتدال» وقطبه الإقليمي العدو بـ«محور الغلو»، فلا شك أن مردود هذا الفشل (المتوقع) على جيران العراق من «حلفاء» الولايات المتحدة، بالضرورة أو بالخيار، سوف يكون أشد وقعاً ووطأة. وإذ بدا نأي هؤلاء الحلفاء بأنفسهم، عام 2003، عن المشاركة في إطاحة نظام صدام حسين، أو أقله عن التبنّي الصريح لهذه الإطاحة، مفهوماً باعتبار ما قد تثيره هذه المشاركة، أو ما قد يثيره ذلك التبنّي من نقمة شعوب/شوارع في نهم متصل إلى كل ما من شأنه أن تتوسل به للمشاغبة على أنظمتها، فإيثارهم اليوم التخلية بين الولايات المتحدة وبين التخبط وحيدة في رمال العراق المتحركة غير مفهوم أقله تحت عنوان دفاع هذه الأنظمة عن نفسها.
من نكد الدهر أن يجد امرؤ (عاقل) نفسه مسوقاً إلى دعوة هذه الأنظمة البائسة إلى الدفاع عن نفسها، وإلى متابعة الولايات المتحدة سياستها العراقية التي منتهى ما يمكنها النجاح فيه هو ألا يعدو فشلها العراق، ولكن بين نكدين مُحَقّقين لا معابة في الخيار، وبين فشلين أحدهما في الخفاء والآخر في وضح العراق، لعل الفشلَ مع الولايات المتحدة أحوط من إحصاء الخسائر جراء فشلها...
* كاتب لبناني