نصري الصايغ *
I الأبواب الموصدة

الطرقات مقطوعة. الأبواب مغلقة. الحلول متوقفة. كأن عنفاً يتحوّل في كل الأمكنة، أو، كأن هناك بحثاً عن صاعق ينفجر في مكان ما، أو، كأن “البوسطة” ستصل لحظة الى المفرق الحاسم، لتنقل الجميع، الى جحيم الفتنة... وسوابق اللبنانيين في ابتداع الفتن ليست قليلة، وكذلك الدماء المسفوكة.
الطريق الى بعبدا عاطلة عن العمل. الرئاسة معطوبة، ولم تعد صالحة للعمل. هجرتها السلطة، وعطّلها طول الإقامة فيها، عنوةً عن الجميع... السرايا الحكومية مطوّقة بأكثر من نصف طوائفه، وأنصاف شعوبه المبدّدة، ومسكون بتأييد دولي وأممي وأميركي وأوروبي واعتدال عربي، ويفتي في جلساته، بالكثير من القضايا المعوجة والملتبسة... مجلس النواب موصد. مفتاحه في جيب الرئيس، حريص على إغلاقه، لأنه الحصن الأخير قبل الانهيار الكبير.
المؤسسات اللبنانية الدستورية سقطت. هي بحاجة الى من ينقذها، فيما هي المسؤولة عن إنقاذ اللبنانيين. الحوار اللبناني مليء بالأفخاخ. والزعماء اللبنانيون، إما متورطون في براءة محبطة، أو، في جريمة مستدامة.
لبنان اليوم، وبالإذن من الدكتور كمال الصليبي، “بيت بخراب كبير”، أو “بيت بخيانات متبادلة”، أو “بيت بألغام جاهزة”.
أقفلت أبواب السياسة، ماتت السياسة في حمأة الاتهامات المتبادلة، ولم يعد أمام اللبنانيين إلا انتظار الحلول من الخارج، المنسوجة بجدل بيزنطي دام، حول “الملف النووي الإيراني” و“دعم الإرهاب”، و“الشرق الأوسط الجديد”، و“تمويل حلف الاعتدال العربي” للقضايا المتفجرة في العراق وفلسطين ولبنان.
II ستحضر “البوسطة”

ستحضر “البوسطة” حتماً، إلا إذا حدثت معجزة. أو، إذا وفّقت الأطراف العربية والدولية، في تأجيل “الحرب الأهلية” المستعجلة. ما حدث في يوم الإضراب العام، كان بروفه. ما حدث في “الجامعة العربية”، كان مشهداً أصيلاً يحتذى، مع تعديل في الزمان والمكان وعدد الضحايا وسحب الدخان... ما حدث قبل ذلك، من اغتيالات ومآسيها، من اتهامات عشوائية، يقصم الوحدة الطائفية اللبنانية الهشة ويوزعها “قبائل وشعوباً” لتناحروا.
ستحضر “البوسطة”، والجميع ينبّه منها، ولا يعمل إلا القليل لمنعها من المرور في مطارح السياسة الخطرة، مطارح الطوائف والمذاهب التي نزلت بكل موروثها التاريخي الانقسامي، لتفتي بصلاحية الموت. ستحضر “البوسطة”، لأنه ثبت لنا، بالأدلة الدامغة، ما يلي:
* اللبنانيون غير قادرين على إنتاج حل.
* القوى الإقليمية والدولية مشتبكة حول صورة الشرق الأوسط الجديد، الذي يريده الأميركيون، أميركياً إسرائيلياً، والذي يريده الممانعون، معادياً لإسرائيل وأميركا، ولذلك، فهي إذا اتفقت حول لبنان، لا بد من ان يسبق ذلك اتفاق حول قضايا كثيرة، تبدأ بالنووي وتنتهي بالسرايا الحكومية.
* الاصطفاف المذهبي بلغ أوجه، عندما تبوّأت لغة النبذ والاضطهاد مرتبة ما فوق العنصرية، وبات الشيعي محتلاً لبيروت، ومن الواجب طرده الى دياره النائية. فالوطن، يتوحد، اذا تباعدت أطرافه عن العاصمة.
* المنحى التوظيفي لأهل السلطة، وخاصة أنها حليف موضوعي، معلن ومبرم، للولايات المتحدة الأميركية، صاحبة الحق الدولي، في ملاحقة “حزب الله” في الداخل اللبناني.
III الطائفية المنتصرة

في بلد لا شبيه له في السياسة، أو، في جمهورية ملبّدة بالحضور الطائفي والمذهبي، فإن احتمالات اختزال الوطن والدولة والسلطة والوحدة، أمر سهل الحدوث، وكثير التكرار.
ثبت أن هذا البلد ــ الغلط، لا يستقيم قوامه الوطني، إلا إذا غابت القضايا الإقليمية عنه، وإذا تغيّبت القضايا الدولية عن تخومه. وثبت ان لبنان، ليس جزيرة، وشعبه ليس إسفنجة ذات مزاج امتصاصي واحد. فشهيات الطوائف، على رائحة ثقافاتها. والثقافة في لبنان، ذات أمزجة ومنطلقات متباينة، تذهب من التأصيل القومي أو الديني، أو المذهبي، الى التغريب التام، أو الى زواج يحصل أحياناً، بين الأصيل والدخيل.
وثبت، لهذه الأسباب، أن لبنان، مغلقة أبوابه من الداخل، بالنيات الخبيثة، ومفتوح على الخارج، بكل طموحاته وشهواته واندفاعاته.
وعليه فإن القواعد التي يخرج منها المراقب تؤكد ما يلي:
* إذا قرر فريق طائفي أن يأخذ البلد في اتجاه ما، أكان هذا الفريق في السلطة أم في المعارضة أم في منزلة بين المنزلتين، فإن لبنان يتعرض للانقسام. حدث ذلك عام 1842 و1860. ثم تجدد في فتنة عام 58، وكان أكثر إبداعاً في حرب الخمس عشرة سنة.
* ليس باستطاعة أي فريق أن يحكم البلد بكامله، مهما بلغت قوته ومهما بلغ امتداد نفوذه. وكل تورّطٍ في وهم السلطة الشرعية الدستورية الواحدة، يشرعن الانقضاض عليها وتمزيقها. للذكرى فقط: حركة 6 شباط وحرب الجبل وسقوط مركزية حكم أمين الجميل.
* ليس بمقدور أي دولة خارجية أن تنفرد بالقرار اللبناني، وتبين ان التفرّد السوري كان مكلفاً لها، حيث اضطرت الى الخروج من لبنان، غير مأسوف عليها، وبقوة الشارع المؤيد بقرارات دولية، كما كان التفرد السوري مكلفاً للبنانيين، الذين، عبثاً حاولوا ان يحكموا أنفسهم بأنفسهم، مدّعين نزاهة كاذبة، في علاقاتهم مع الأطراف الإقليمية والدولية.
إذاً: لبنان، إما يذهب كله في اتجاه فيسلم، وإما يذهب نصفه في خيار، فينقسم.
إذاًَ أيضاً: إما ان يحكموا كلهم لبنان، كطوائف بزعامات حقيقية، فيسلم، وإما يحكم بقسم من طوائفه، فينقسم.
إذاً أيضاً وأيضاً: أما أن ينفرد طرف خارجي بحكمه، بالوصاية أو الأوامر أو النفوذ، فهذا يعني أن لبنان على وشك استقبال البوسطة.
تنتصر الطائفية ويسقط لبنان في الحروب الأهلية.
IV الوليمة الإسرائيلية

ماذا غداً؟
قبل الإجابة، أسئلة أخرى:
من يتنازل أولاً؟ أم هل يتنازلان معاً؟ أم يعيدان جدولة قضاياهم، تأجيلاً للانفجار؟
هل بإمكان المعارضة ان تخرج من الشارع وتخسر كل شيء، لأن فريق السلطة لن يوفر لها مكافأة أبداً، لا بالحوار، ولا في المؤسسات ولا في السياسات التي ذهبت بعيداً في الاتكال على “العدو” الأميركي المعادي بالدم للمقاومة؟
ثم، هل بإمكان فريق السلطة، ان يقبل بالمشاركة على أساس الثلث الضامن، من دون أن يتم الاتفاق على ما هو أصعب: رئاسة الجمهورية، انتخابات مبكرة، قانون انتخابي “عادل”؟
أو، هل يمكن الاتفاق على قيام سلطة وطنية تأسيسية، انطلاقاً من صفقة تاريخية، (تبدو مستحيلة)، يتم فيها رسم الحدود السياسية للبنان، متطابقة مع حدوده الدولية، ما يؤكد سيادته واستقلاله وقراره الوطني اللبناني المنبع والمصلحة.
أو، هل تستطيع الأطراف، أن تقنع بعضها بعضاً، بأنها طلّقت بالثلاث، الاتفاقات المنفردة، مع دول وسياسات خارجية، تؤذي أو تدمر أو تستبعد أفرقاء لبنانيين؟
تبدو الصورة كالحة جداً.
ليس بمقدور اللبنانيين، كفرقاء موجودين في الساحة، ان يقنعوا بعضهم بعضاً، بأنهم لبنانيون أولاً. فالتشكيك في لبنانية اللبنانيين عملة قديمة رائجة الاستعمال في المراحل الحرجة: تذكروا: السنّة بحاجة الى فحص دم لبناني. الموارنة انعزاليون مرتبطون بالغرب، تأسرلوا. الشيعة إيرانيون، القوميون العرب ناصريون ثم سوفيات، كأن لبنان، لم يعبر يوماً في حقل سياسي لبناني. كان دائماً يسير في حقل ألغام، لقضايا عربية ــ دولية، غير طارئة على الثقافة السياسية المتناقضة للبنانيين.
ماذا غداً؟
أرى العراق على أبواب لبنان. أرى السنّة والشيعة يعيدون كتابة التاريخ بالدماء. أرى لبنان وليمة لأميركا ولإسرائيل. وليس معروفاً ما إذا كان بالإمكان إعادة صياغة لبنان، بلا غالب ولا مغلوب قريباً، أو، في المدى الأميركي المنظور.
* كاتب لبناني