زياد سعيد *
لم يعد الاستمرار في استرهان البلد ممكناً. و«الظروف الخاصة» السابقة، التي مكّنت منه مهددة بأن لا تبقى كذلك، وخصوصاً أن «الذرائع» التي سمحت به طوال الفترة الماضية نضبت أو هي توشك أن تفعل.
الاعتصام الذي انطلق قبل أكثر من شهرين، والذي توّج بتظاهرة 10 كانون الأول الماضي الواسعة، قال كلمة أولى فاصلة، وأظهر أن ميزان القوى الداخلي الذي سبق له أن اختل بنتيجة التدخلات العربية والدولية، وأتاح الاستيلاء على «الدولة»، يسلك طريق التصحيح.
إضراب 23 كانون الثاني قال كلمة إضافية، لكن شبه حاسمة، في تهديد مرتكزات الاستئثار السلطوي الفاضح وتقويضه، بل وجعله عرضة لانهيار وشيك.
نجاح الإضراب جعل قوى السلطة تتلمّس احتمالات السقوط الجدي والنهائي لـ«مشروعها»، وخصوصاً بعد الفشل الذريع للحرب الاسرائيلية التي حاولت رفد هذا المشروع المتعثّر فلسطينياً وعراقياً، بل ومحاولة الحسم النهائي لمصلحة الوجهة السياسية التي تقود خطوات قوى السلطة. فكان الانتقال الى المرحلة التالية التي تقضي أول ما تقضي بنشر العنف والفوضى وحتى التلويح بالحرب الأهلية، وإذا ما تعذر الأمر فلا مانع من وقوعها. إذ إنه لا سبيل آخر أمام قوى السلطة لإدامة الوضع الانقلابي المكشوف إلا بالعنف والتوتير.
التدقيق في خطاب السلطة خلال الأشهر الفائتة يظهر أن التوتير، والتحريض الهادف الى التوتير، يكاد يكون العصب الوحيد الذي يطبع هذا الخطاب ويشد مفاصله. وما الإفشال المتتالي للـ«المبادرات» التي توالت من غير طرف محلي وعربي، والتي هدفت ضمناً الى تقطيع الوقت، إلا تأكيد على الطابع التأزيمي لمشروع هذه القوى.
حملات التعبئة المذهبية التي تواصلت طوال الأشهر الماضية والتي سلكت خطاً تصاعدياً، سخّرت وتسخّر له كل الإمكانات، بما فيها تلك التي تمثّلها المراجع الدينية، أو الوسائط الإعلامية، وتعلن اليوم مع جريمة استهداف الطلاب المعارضين في حرم «الجامعة العربية» بلوغ محطة أولى تنتظر أن تليها محطات لا تقل عنها وطأة.
ما يقوله وليد جنبلاط مداورة قاله بالأمس السفير الأميركي جيفري فيلتمان صراحة. وفي قوله ما يؤكد طبيعة وحقيقة المعركة التي تستهدف لبنان، ويكشف عن ذرائعية العناوين الأخرى المتصلة بموضوعة المحكمة الدولية أو غيرها من الموضوعات التي تزيّن الخطاب السياسي الرثّ لفريق السلطة، والتي تستهدف حصراً إلحاق البلد بمعسكر «الاعتدال العربي» الذي تقوده السعودية وتعمل على تمويل أنشطته العديدة.
الأرجح أنه لا حاجة بعد اليوم لعقد المقارنات وإقامة البراهين على نيات «أهل الاستئثار» لجهة استعدادهم للتفريط بالبلد وبسلمه الأهلي. الخطاب الإعلامي المبرمج الذي ينسج على المنوال المذهبي الصريح يكفي للدلالة على ما تبيّته هذه القوى، وعلى إرادة الذهاب بعيداً في سبيل الحفاظ على سلطتها.
من الضروري الوقوف عند الاستهداف السياسي الذي طال دور الجيش اللبناني. «البلاغ العسكري» الذي أذاعه وائل أبو فاعور، والذي أخذ فيه على نفسه مهمة التصدي العنفي المباشر لاعتصام المعارضة، تجاوز التشكيك في دور الجيش وهدف إلى الضرب الصريح لدوره، لرفضه التعرض لناشطي المعارضة، وكشف عن رغبة القوى التي يمثّلها أبو فاعور، في إسقاط الجيش وبالتالي ضرب الصمام الأمني الأخير الذي تمثّله هذه المؤسسة، وعن إرادة الذهاب بالبلد الى الهاوية إذا ما تعذّر عليها الإبقاء على الاستئثار الحاد بالسلطة.
حادثة «الجامعة العربية» هدفت أيضاً الى التمويه على المأزق الذي تعيشه قوى السلطة، وذلك عبر ضرب الاستقرار اللبناني الهش أصلاً. وما الاستهداف الناري المباشر الذي طال المدنيين وعناصر الجيش اللبناني إلا تأكيد لهذه الوجهة الخطيرة التي تريد للبلد أن يقع فريسة الفوضى. وهذا ما يُملي على المعارضة أن ترفع من وتيرة خطابها وأدائها، لأن في استمرار التهاون مع الممارسات المليشياوية، ما يزيد من شهوة الدم التي تمسك بجنبلاط وبحلفائه من ذوي التكوين الإجرامي، وقد يقود الى تعريض البلد لأخطار شاملة.
منذ سقوط العدوان العسكري الاسرائيلي المباشر، ومجمل المشروع المرتبط به يعيش ترنّحاته الخاصة. وكان واضحاً أن الراعي الأميركي للحرب لن يسمح بمرور هذه النكسة التي تجاوزت في آثارها المجال اللبناني لتطال المدى العربي، وتحديداً المديين الفلسطيني والعراقي.
لذا يمكن الجزم بأن ما يعيشه البلد اليوم هو الترجمة الحرفية لرغبة الانتقام الأميركية التي تجد تعبيراتها المباشرة في التركيز الدائم في خطابات رجالات الإدارة الأميركية وتصريحاتهم على دعم الحكومة التي يرأسها فؤاد السنيورة.
ما من قوة مطلقة. وما يبدو كذلك هو وهم مجرد. قوة التهديد بالفتنة الداخلية وبالحرب الأهلية خطر قد يرتد على أصحابه وحدهم. وهذا ما يجعل من معركة استعادة الدولة أولوية الأولويات، وخصوصاً ان قوى الاستئثار ماضية في تنفيذ المشروع نفسه الذي سبق إحباطه عند بوابات بنت جبيل ومارون الراس وغيرها من القرى والبلدات اللبنانية.
* كاتب لبناني