نصير أحمد *
بيَّنا في مقالة سابقة بعنوان «ديكتاتورية القوانين الأميركية، الإنترنت نموذجاً»، (نشرت في جريدة الأخبار، الثلاثاء 15 أيار 2007، العدد 226، ساحة رأي، صفحة 15)، كيف احتكرت الولايات المتحدة الأميركية، إدارة نظام عناوين مواقع الويب الدولي الأبعاد، عبر مؤسسة أميركية خاصة هي «مؤسسة الإنترنت لمنح الأرقام والعناوين» ICANN «الأيكان»، وقلنا ماذا يعني هذا الأمر من النواحي السياسية والمالية والقانونية.
الجدير ذكره هنا، أن عناوين مواقع الويب تتفرع عند مستواها الأعلى إلى فرعين أو امتدادين اثنين:
أولاً: عناوين المواقع العمومية أو العامةGeneric Top Level Domains (gTLDs)، مثلاً الامتدادات (com، .net، .org. ،…).
ثانياً: عناوين المواقع الإقليمية أو الجغرافية الخاصة بكل دولة من الدول، التي توصف بالمواقع الوطنية، Country code Top Level Domains (ccTLDs)، مثلاً الامتداد (.fr) للمواقع الوطنية الفرنسية، (.lb) للمواقع الوطنية اللبنانية.
وإذا كانت مسألة إدارة نظام عناوين المواقع العمومية المستقلة تتعلق بديكتاتورية أو تسلط أو هيمنة قانونية أميركية، فإن المسألة بالنسبة إلى إدارة نظام عناوين المواقع الوطنية قد تتعدى ذلك لتأخذ شكلاً من أشكال الاستعمار القانوني أو الانتداب ـــــ لأن البعض قد لا يوافق على استعمال المصطلح «استعمار»، الذي يعني من الناحية اللغوية طلب العمران عكس ما هو عليه الاستعمار حقيقة وفعلاً ــــــ أو العولمة القانونية، التي تشكل امتداداً لفكرة الديكتاتورية والتسلط،
بهدف إبقاء السيطرة الأميركية على نظام عناوين المواقع حتى في امتداداتها الوطنية. تفرع عن «الأيكان» هيئات ثلاث لإدارة هذا الملف على المستوى القاري، وعن هذه الهيئات الثلاث تفرعت في كل دولة من الدول مؤسسة، أو مكتب، أو هيئة وطنية حكومية رسمية، أو خاصة، تولت إدارة نظام عناوين المواقع الوطنية أو الجغرافية الخاصة بتلك الدولة.
وبغض النظر عن مناقشة مدى أحقية أو عدم أحقية الولايات المتحدة الأميركية في إدارة هذا الملف ــــــ على كل حال هذا ما كنا قد تطرقنا إليه في المقالة السابقة ــــــ فلا توجد مشكلة من حيث المبدأ إذا ما أُسندت إدارة نظام العناوين الوطنية في دولة ما إلى مؤسسة أو هيئة حكومية رسمية تابعة لتلك الدولة. وهذا ما هو الحال عليه في أغلب دول العالم. ولا توجد مشكلة إذا ما عمدت تلك الدول بعد ذلك إلى خصخصة هذا القطاع، بغض النظر أيضاً عن موقفنا من قضية الخصخصة بحد ذاتها، وخصوصاً لهذا القطاع السيادي. أما أن تُسند إدارة نظام عناوين المواقع الوطنية في دولة ما، بتكليف من مؤسسة الأيكان الأميركية مباشرة، إلى مؤسسة خاصة في تلك الدولة فهنا تقع المشكلة الكبرى!
في ما خص الجمهورية اللبنانية، فقد أُسندت إدارة نظام عنونة المواقع الوطنية اللبنانية إلى مكتب خاص تابع للجامعة الأميركية في بيروت، هو «مكتب تسجيل عناوين المواقع اللبنانية» Lebanese Domain Name Registry (LBDR). والأمر الغريب الأول الذي يمكن ملاحظته هنا، هو أن هذا المكتب يُتصل به بالوسائل التقليدية من خلال الاتصال بالجامعة الأميركية، أما عبر الإنترنت فيُتصل به عبر موقع الجامعة نفسه: www.aub.edu.lb/lbdr. وننطلق من هنا لمناقشة الأمر من عدة نواح:
أولاً: من الناحية السياسية السيادية: كيف يمكن القبول بفكرة أن نظاماً وطنياً يعني ويمس الدولة اللبنانية في سيادتها، وهو في النهاية يستخدم اسمها Lebanon (.lb)، يديره مكتب خاص تابع لجامعة تحمل اسم دولة أجنبية، أي هل يمكن تصور أن عناوين المواقع الوطنية اللبنانية يديرها مكتب تابع للجامعة الأميركية!؟، من دون أن تكون الدولة اللبنانية هي من سمحت لهذا المكتب بإدارة هذا الملف، أو وافقت على ذلك عبر عملية قانونية ما كعملية الخصخصة التي في النهاية تستفيد منها الدولة اللبنانية مالياً. وهذا ما يجرنا إلى بحث المسألة من الناحية المالية.
ثانياً: من الناحية المالية: لا بد من السؤال عن الجهة التي تستفيد من الأموال الكبيرة المستحصلة من خلال عملية التسجيل لدى هذا المكتب، وخصوصاً أن إسناد إدارة هذا الملف إليه لم يتم عبر قانون لبناني أو مرسوم. الجواب بديهي عن سؤال بديهي، فالمكتوب يُقرأ من العنوان «مكتب تابع للجامعة الأميركية في بيروت! هنا يمكن القول: إن الإنترنت من الناحية التقنية التي ترتبط في النهاية بالناحية المالية، هو عبارة عن شبكة من الشبكات التي تصل بين الحاسبات الآلية الموصولة بتلك الشبكات، والتي تسمح بتداول البيانات من خلال بروتوكول تبادلي خاص. الشبكات تلك هي في الغالب مملوكة من حكومات الدول ومؤسساتها، وعلى ذلك من حق كل دولة الاستفادة من العائدات المالية المتأتية عن استخدام الشبكة المملوكة منها مهما كانت طريقة الاستخدام. ومن المعلوم أن تقنية عناوين المواقع هي امتداد لفكرة الاتصال وتداول البيانات عبر الإنترنت، وهي بذلك وفي لبنان تستفيد من الشبكة المملوكة من الحكومة اللبنانية، لذلك فالأولى أن تستفيد الجمهورية اللبنانية من استغلال شبكتها لا أي جهة أخرى مهما كان شأن تلك الجهة.
ثالثاً: من الناحية القانونية: عدا عن المغالطات الكثيرة في طريقة إدارة هذا الملف ـــــ التي لا مجال لذكرها هنا ـــــ من قبل مكتب تسجيل العناوين في لبنان التي تبيَّنَت بعدما قمنا بدراسته. كيف يمكن هذا المكتب ممارسة صلاحيات قانونية هي حصراً من اختصاص السلطة القضائية اللبنانية، كتحديد معايير قبول تسجيل العناوين، ومعايير حمايتها، وتحديد المحكمة الصالحة لبتّ الدعوى، وتحديد القانون الواجب التطبيق في حال وجود نزاع حول العناوين على سبيل المثال؟، وهي ما تنص عليها قوانين أصول المحاكمات اللبنانية.
إذاً في مواجهة هذا الاستعمار القانوني لا بد من إبداء المقاومة القانونية، والعمل على أن تكون إدارة هذا الملف رسمية، تتم من قبل مكتب أو هيئة تسجيل تابعة للدولة اللبنانية، إسوة بالهاتف الثابت، وكما هو الحال في معظم دول العالم، أو من قبل مؤسسة خاصة تقوم بمهماتها وفقاً لعقد تشغيل (BOT) إسوة بإدارة قطاع الهاتف الخلوي، أو عن طريق خصخصة هذا القطاع وتسليم إدارته بقانون خصخصة لشركة خاصة.
من ناحية أخرى، لا بد من إبداء الإعجاب بديناميكية التشريع الأميركي، وجاهزية المشرّع هناك لمواجهة أية إشكالية قد تطرأ عن الثورات التكنولوجية المتلاحقة، وبمدى قوة وهيبة القوانين الأميركية، والمحاكم الأميركية، وبسرعة تطور المنظومة القانونية الأميركية ومدى مرونتها. نعم الديكتاتورية قد لا تعني هنا التسلط والهيمنة والاستبداد، بل قد تعني القوة والرفعة والمناعة لهذه المنظومة. على سبيل المثال، وفي ما خص عناوين المواقع، فقد تبيَّن بعد الدراسة، أن أعلى مستوى من الحماية يمكن أن تكتسبها العناوين موجود في الولايات المتحدة الأميركية، بالنظر إلى قوة القوانين الأميركية التقليدية وقابليتها للتطبيق على الظواهر المستجدة، وبالنظر إلى استحداث قوانين جديدة تتناول الإشكاليات الناشئة عن نظام عناوين المواقع وتحلّها. لذلك يلجأ معظم المسجلين لعناوين المواقع بهدف حماية عناوينهم إلى تسجيلها كماركات تجارية ـــــ بعدما استقر الرأي على حماية العناوين كماركات ـــــ لدى مكتب براءات الاختراع والماركات الأميركي للاستفادة من الحماية الممنوحة للماركات وبالتالي العناوين هناك.
من هنا، لا بد من العمل على تطوير التشريعات والقوانين اللبنانية في موازاة مقاومة العولمة القانونية، ولكي تصبح قادرة على أن تتلاءم مع التغيرات الكثيرة الحاصلة على الصعيد التكنولوجي. أيضاً لا بد من استحداث قوانين جديدة قادرة على حل الظواهر الجديدة، تعطي قدراً من الحماية للعناوين المسجلة في لبنان، وتوفر قدراً من الاطمئنان لمسجلي تلك العناوين. من دون ذلك لا يمكن الحديث عن حرية كاملة، وعن سيادة واستقلال كاملين، ما دمنا لم نصل بعد إلى حرية وسيادة واستقلال قانوني كامل.
* باحث في قوانين المعلوماتية