نسيم ضاهر *
غذَّت مناطق لبنانية معينة موجات الهجرة الأولى بغالب روافدها. نال الشمال منها حصة مرموقة، على غرار النواحي التي عانت طويلاً جور نظام المقاطعجية تبعاً لقساوة وبطش العائلات التي رست عليها العهدة وأنيط بها انتزاع الميرة، ضرائب وأتاوات، فاقت قدرة العوام على الصمود والبقاء.
أضافت أحداث عام 1869 عاملاً مؤثراً، دفع بأقوام مؤلفة إلى طلب الرزق والأمان في أقاصي المعمورة بوتائر متصاعدة بلغت ذروتها بُعيْد قيام المتصرفية لغاية عتبة الحرب العالمية الأولى. بذلك تأسّس الشتات على المظلومية التي حاقت بأبنائه في أرض المنشأ، والصدفة التي حملته الى بلدان بعيدة، شُبّه له أنها تجمع الذهب والعسل. وحيثما حطَّ المهاجرون الأوائل، تبعهم الأهل والأتراب، تاركين في قراهم أفراداً من خلايا وبقايا من أحباب، للعناية بالميراث واستمرار التناسل. أما في حال القحط والفقر المدقع، فقد نزحت قرى بكاملها وغابت كلياً عن خريطة الجغرافيا البشرية المحلية، لتنشىء في المغتربات مصغراً عن الوطن يلمّ الشمل ويحافظ على الألفة ويُبقي على الحلم بانتظار العودة المؤجلة من جيل إلى جيل.
كانت أخبار الغائبين تفد لماماً، متقطعة، محكومة بعامل العوز غير المباح، ومشقة الاستيطان والتأقلم، وصعوبات الاتصال. منهم من انقطع تواصله وضاع أثره كلياً في مجاهل الشقاء، ومنهم من آثر التمهل والصمت حيال أحواله، ريثما يُفلح في إيجاد سقف اقتناء ودكان، ويفي بمستلزمات المكاتيب وبشائرها من صور فوتوغرافية تعكس النجاح المتواضع، تبلغ عن الوفرة واتساع العائلة، وإرسالية أو حوالة في طيِّها، عربوناً لعدم النسيان. وبفضل الأموال الزهيدة المستقطعة بادئاً، قروشاً وريالات، من مداخيل صعاليك الترك، كما كان مسماهم، كتبت الحياة والنجاة لطوابير المعذبين الفقراء، وأتاهم ما يسدّ رمق العيش من وراء البحار.
تعاقبت أجيال على مغادرة الوطن الصغير، وتعددت دوافع غربتها، لكن تشاركت في طابعها القسري، على خلفية القهر، أكان اقتصادياً أم اجتماعياً، أم استولدته المعاناة الوجودية وهيأ له الاقتلاع.
ومع مرور الزمن، اختنقت الذكريات وبهتت الصورة، على رغم أن ثمة رابطاً وجد طريقه الى الوجدان على معنى المحبة والتعلق بالجذور، وعمل على زرع معالم هوية أصلية منقوصة وإنبات الشوق والحنين.
يعاني الغرباء عموماً في أرض ميعادهم إشكالية الاندماج. لم يشذّ المهاجرون اللبنانيون عن هذه القاعدة التي بسطت فعلها بقدر ضعف محمولهم الثقافي وجهلهم بعادات البلد المُضيف وأصولهم الريفية. ووفق معارج مماثلة وخيوط شبيهة، انضمّ المنحدرون الى النسيج الاجتماعي الجديد، على غرار سائر الوافدين من أقطار أخرى الى عدن الموعودة. رويداً، وتباعاً أدخل التطور العلمي والتقني وسائط ووسائل اتصال، غير معروفة أو مُعمَّمة من ذي قبل، سمحت بتقريب المسافات ومدّ الجسور بين الجناحين، المقيم والمغترب، وبدّلت معطيات. مذ ذاك عاد الوصل طرداً، ونمَتْ الحاجة للتعرف بأرض الجدود وجلاء مكنون العاطفة المحفور في الشخصية جرّاء الأحاديث المنقولة والأقاصيص.
أدت الكنائس دوراً فاعلاً في إحياء الجماعة وتمكينها من التعارف والتلاقي في المغتربات. وحذا حذوها المرسلون من الطوائف المحمديّة الى إفريقيا وأوستراليا بخاصة، إضافة الى جامعها المشترك مع المسلمين غير العرب في أميركا الشمالية. في الموازاة، عملت الجمعيات الأهلية على إقامة الأندية والروابط، ما شجّع على انخراط الشباب في تمارين الفولكلور وتماسهم مع العادات والتقاليد البلدية. بيد أن المؤسسة السياسية اللبنانية تخلّفت عن القيام بواجبها ردحاً، إذ أوثقت السفارات غالباً علاقاتها مع الأثرياء الميسورين من أفراد الجاليات دون سواهم، إلى أن قررت الدولة إطلاق الهيئات الاغترابية التي عرفت التنازع والانقسامات نظير الاصطفافات السياسية والمذهبية في الوطن الأم. لكن الرافعة الأبرز لنمو الاهتمام الاغترابي في الشأن اللبناني، انتصبت وليدة الثورة المعلوماتية والإنجازات في ميادين الاتصالات والنقل السمعي/البصري، وأيقظت لوناً من الوعي والشغف بأحوال المنبت ومشاغله وسط أجواء منطقة تلفّها العواصف
والاضطرابات.
غداة إخماد نار الحرب الأهلية، أنجب اتفاق الطائف معادلة جديدة تناولت أنصبة الحكم وتعديلات دستورية في ضوء الواقع الديمغرافي للمقيمين ونسب المسجلين. وسرعان ما لحق بهذه الهندسة مرسوم تجنيس جائر، حقّ أريد منه باطل، رفد لوائح المسجلين بقوائم حُشرت في نسيج كل محلة وقرية ودسكرة، ضمت غالبية من غير مستحقين تلبية لمراد الوصاية، وتلاعباً بالتوازنات.
ولئن شهد لبنان مجدداً موجة كثيفة من الهجرة في غضون سنوات طالت عنصر الشباب تحديداً، بانت خطورة إفراغ البلد من قواه الحيّة واستبدالها بالطارئين ورسّخت الهواجس لدى المسيحيين من ضمورهم وإجلاسهم في التهميش والإحباط، لكونهم طليعة المُتضررين والأكثر عرضة لنقصان أعدادهم.
تأكّد قصور حلقة السياسة في معالجة مسألة المواطنة مدى عقود، نعِمَ خلالها الطرف المسيحي بصدارة السلطة وأهم مفاصلها. وعلى رغم مساحيق الطائف التي أوجبت المناصفة، غدا الأمر، في حقيقة المعاش والمشهود، أن الأحجام تحدد الأوزان وتملي على المجتمع ما تفادته السياسة شكلاً. فلقاء الاعتداد المُبطَّن بالأعداد تمهيداً لتصحيح المعادلة الداخلية، وعلى خلفية الشعور المتعاظم بما أورثته الأنانية والمركانتيلية والحماقة السياسية من غيبوبة وجودية واستقالة معنوية لدى منْ أوكلت إليه المقاليد من صفوف المسيحيين، عمد العقلاء الى مراجعة شاملة بياناً لمكامن الخلل واستدراكاً واجباً وفق مآل الإنصاف والقانون. وعليه، تمّ لغايته إعداد دراسات وافية واستخراج معطيات رقميّة تفصيلية موثقة سوف ترى النور في القريب العاجل، ربما قبل الانتخابات الرئاسية، وتعيد النصاب المفقود.
تُنبئ النتائج المرتقبة، على ما يُؤكِّده الدارسون والعارفون، أنّ مسلّمات قريبة العهد وشائعة، باتت فعلاً قيد إعادة النظر، إذا ما التفت اللبنانيون الى الشتات ورفعوا الغُبن اللاحق به خلافاً للأصول والحقوق المكتسبة بقوة القانون. الحاصل حالياً، أن كمّاً هائلاً من مستحقي الجنسية قد حُرم منها، تقصيراً واعتباطاً ونتيجة سوء تدبير، وأن ما يوازيه أو يماثله من المشمولين بالإحصاء قد شطب قيده أو أهمل عمداً لأسباب تتعلق بالمواريث واختصار المستفيدين منها. تلك خطوة أولى، يتلوها جهد منظم لتوفير سُبل إعادة الحضور والإقامة والعمل، عبر إنشاء ما يُشبه صناديق التمويل، يسهم الشتات والمقيم، في تأسيسها ودعمها بالموارد.
غلب على الشتات اللبناني النهوض بالعون والمساعدة سبيلاً أحادي الاتجاه والمحصول. اليوم، في زمن القرية الكونية والمؤثرات العابرة للحدود، من غير المستحيل تحقق الحلم الذي راود الكثيرين وألهب مخيّلة المشطورين بين الوطن والغربة، شريطة الاعتراف بضرورته الكيانية وأحقيته القانونية والتاريخية الناجِزة. فحين يحسم اقتراع المُجنّسين المجهولين أكثر من جولة انتخابية، ويرجح خيارات مصيرية، من الأحرى إيلاء المستحق المبعد بعض اعتبار وإنصاف، ولا سيما أن هذا المسعى صنو العدالة وبشير إغناء ومعارف ومزيد من اتصال بالعالم الفسيح الحديث. فما من جدوى للقاحات ملبننة عند توافر المناعة على قاعدة إدماج الخلايا العضوية وتفعيلها في النسيج الاجتماعي. وعلى المدى البعيد، قد يُؤدي ضم «المشردين» الى حضن العائلة اللبنانية طواعية، وبالاختيار الحرّ، إلى تجسيد مفهوم التوازن بناءً على مكوِّنات مجتمعية ملموسة، وطمأنة اللبنانيين الى أنّ القبول والمناداة به عامل استقرار وفعل إرادة مشتركة، إنما يستند إلى واقع وأصالة من صنع التاريخ والحاضر على السواء. على هذا المعنى، يستقيم القول بلبنان الرسالة، ولا يُؤخذ التوافق التاريخي والتعايش على محمل الضرورة الظرفيّة والمكرمة، بل يضحي عنواناً لإرادة واعية وتصميم عقلاني، وشكلاً من إعلان مستقبلي قوامه صيغة لا صورة.
* كاتب لبناني