عمر كوش *
يمسّ سؤال الديموقراطية في الدولة الحديثة جوهر العلاقة ما بين المجتمع والسلطة، إذ تأخذ هذه العلاقة في بلداننا العربية طابعاً إكراهياً وعنفياً، نظراً إلى غياب الشرط الديموقراطي، وغياب العقد الاجتماعي ودولة المواطنة. وليست الديموقراطية بمختلف أقلماتها مجرّد فعل انتخابي أو بالأحرى تقني، لأن معناها يكشف عن طبيعة السلطة في البلد المعني. وبالتالي، فإن الحديث عن الديموقراطية يبقى ناقصاً إن لم يعطف على تلك الجوانب التي تمسّ مختلف تفاصيل الحياة اليومية للأفراد والجماعات في البلد المعني.
ويواجه الحراك الديموقراطي في سوريا، اليوم، تحديات وصعوبات عديدة، حيث يشكل التراجع عن الانفراجات التي حدثت في السنوات القليلة الماضية أحد أهم هذه التحديات، فضلاً عن التحديات الخارجية. وللأسف، لم تنجح النخب السياسية الحاكمة في بلادنا في إنجاز أي هدف كبير من الأهداف التي أعلنتها في التنمية والإصلاح، ولا قطعت خطوات جدّية نحوه، بل تراجعت خطوات في الاتجاه المعاكس، الأمر الذي يطرح مركزية سؤال الديموقراطية، بوصفه سؤال تمكين المجتمع من توجيه الحكم ومراقبة سياساته. وستبقى الديموقراطية قضيّة اليوم والغد، وقضيّة صراع داخلي شديد، يدافع فيه أصحاب السلطة عمّا يستأثرون به من ثروة ونفوذ بعيداً من رقابة المجتمع وحسابه.
وقد عاشت سوريا بعد الاستقلال سنوات عديدة من الممارسة الديموقراطية والحكم الليبرالي النسبي، كان فيها الصراع على أشده ما بين لاعبين سياسيين أقرّوا بالدخول في التنافس البرلماني وبين العسكر الذين كانوا ينشدون وقف الممارسة الديموقراطية والسيطرة على الحياة المدنية. ويمكن القول إن السنوات 1954 ـــــ 1958 تميزت بحراك ديموقراطي مشهود في التاريخ السوري الحديث، يمكن الاستفادة منه والبناء عليه.
غير أن الحديث، في أيامنا هذه، عن آفاق التحول أو التغيير الديموقراطي في سوريا، ليس هدفه تقديم وصفة جاهزة، ولا اختراع ديموقراطية من لا شيء، ولا تقليد أي نموذج جاهز في بلد آخر، بل يهدف إلى تأكيد ضرورة التغيير السلمي نحو الأفضل، وبناء هذا التغيير على مبادئ إنسانية سليمة وناجعة، والاسترشاد في ذلك بالتجارب والقيم والمبادئ الديموقراطية. وبالتالي، يتعيّن تحديد هدف ومنهج هذا التغيير الذي يمكن أن يأخذ وقتاً طويلاً.
لقد حدثت تغيّرات وانفراجات بسيطة على مستوى الداخل السوري، مع وصول الرئيس بشار الأسد إلى الحكم، وتأمل السوريون الخير من أن تترسخ بداية لتحقيق الإصلاح الذي انتظروه طويلاً. لكن مع الأسف، فإنّ النظام الحاكم فهم الإصلاح بأنّه يفضي إلى الفوضى والفلتان، وغاب عنه مفهوم واضح له، حيث جرى الحديث عن الإصلاح بشكل مبهم في بداية الألفية الثالثة، ثمّ تحوّل الحديث إلى الإصلاح الاقتصادي من دون الإصلاح السياسي، ثم جرى الحديث عن الإصلاح الإداري فقط. وبعد ذلك، استبعدت لفظة الإصلاح ليجري الحديث عن التحديث والتطوير كمفهومين غائمين. وكان السؤال المشروع، وما زال، هو: تحديث ماذا؟ وأيّ تطوير؟
إن الإصلاح المطلوب هو كلّ متكامل، يشمل مختلف الميادين السياسية والاقتصادية والإدارية والاجتماعية، ويحتاج إلى تضحيات كبيرة، أهمها محاربة الفساد وإطلاق الحريات، وإحياء مؤسسات المجتمع المدني، وبناء مؤسسات الدولة على أسس جديدة.
ولا شك في أن الخيار الديموقراطي قد يحمل مخاطر محتملة، لكنه بحاجة إلى جهد تنظيمي وتثقيفي وتنموي كبير، وإلى مضمون عميق لبرنامج سياسي واجتماعي متكامل. وليس الهدف من بناء الديموقراطية سوى وضع حدّ للنظام الشمولي، وتفكيك آليات عمل هذا النظام، الذي أثبتت تجارب شعوب عديدة، كما أثبتت تجربة العقود الماضية في بلداننا، أنه غير صالح حتى لتحقيق الأهداف التي خطّها لنفسه. والذين يطالبون بالتغيير في سوريا ويطالبون بالديموقراطية، إنما يدفعون في اتجاه الخروج من نهج الإقصاء ونظام الشمولية، بمعنى أن الدعوة إلى التحول الديموقراطي تأتي استجابة لحاجة أساسية، هدفها الخلاص من نير السلطة البيروقراطية الشالّة والمجمدة، وترتبط بشكل مباشر بالمعضلات والمشاكل التي يعانيها معظم السوريين، وفي مقدمها حالات الإقصاء والتهميش وعدم تقبل الرأي الآخر، وإطلاق حراك مختلف القوى المجتمعية، والاعتراف بوجود مجتمع له وجود وحضور وحقوق وقيمة، وليس مجرد أداة بيد قوى السلطة.
إن هدف التغيير الديموقراطي هو الوصول إلى مجتمع يحقق دولة المواطنة، لا دولة الرعايا والأزلام، كي تحل المواطنة محلّ مختلف الانتماءات والعصبويات ما قبل المدنية، وهي تستلزم الحرية، ومساواة الجميع أمام القانون، والسيادة، والعدالة، والثقافة المدنية، وبشكل تغدو المواطنة صفة السوري أياً كان، وليست حكراً على فئة سائدة ومهيمنة، وتُنزع عن الآخرين.
وتغدو مهمة استكمال الوطنية الدستورية ضرورة كي يقوى البلد بناسه، وهي لا تتحقق من دون وجود مجتمع مدني، قوي وفاعل بمؤسساته وممثليه، مع الأخذ بعين الاعتبار انعدام وجود مجتمع مدني من دون دولة ديموقراطية. والعكس صحيح أيضاً، إذ لا توجد دولة ديموقراطية من دون مجتمع مدني ناشط، وبالتالي لا تُطرح فكرة المجتمع المدني بالاستقلال عن الدولة، بل بالارتباط والتعاضد بينهما.
* كاتب سوري