نسيم ضاهـر *
يروي الدكتور حسين غباش، بكثير من الشغف، تاريخ الحركة الإباضية وما آلت إليه بين إمامة في الداخل العُماني، وسلطنة على سواحل مسقط.
ويلفت، عبر معارج التقلّبات والتبدّلات، طوال حقبة التنافس الاستعماري على مدى قرون، إلى المستقى من درس بليغ نتيجة انقسام الشعب الواحد واندثار المرجعية ذات المشروعية الضاربة في عمق المجتمع.
لسنا في صدد المقارنة بين لبنان ومسقط، المستقرة اليوم على نهضة عمرانية وتصالح، بعد فورات وثورات عصفت بتاريخها القريب توكيداً لأصالة وبحثاً عن صيغة حكم ونظام، فيما تحفـّز قراءة الأحداث على استخراج مدلولات رغم فارق المكان والمعطيات البنيوية، تتّصل ببواعث الأزمات الكيانية ومفاصلها وتردّداتها على وجه عام، ومسالك التسويات، إضافة إلى مقدار تلبيتها لمصالح مختلف الأفرقاء وأمزجتهم. كذلك تفيد بمدى تأثيـر العامل المادي والمعيشي في إنضاج حلول مقبولة، وصون لون من الاستقرار على خلفية الرفاه وتحديث الاقتصاد.
من نافل القول إن ما نشهده اليوم في لبنان من انشطار على مبنى السياسة، حصيلة تنازع نجد أسبابه في تدافع المتغيرات وشريط الأحداث المتسارعة داخلياً، وفي المحيط الإقليمي. إلاّ أن اللوحة الحالية ارتسمت، من دون أدنى شك، وتكاملت، بفعل سجلّ حافل بالمظالم والتراكمات، دوّنه كل طرف بقلمه ونقَّحـه بريشتـهِ.
فعالم السياسة عادة، على ضراوته، لا يفرز انعدام ثقة متبادلة بالعمق المشهود، ولا يضع البلاد على مشارف شرّ مستطير، إذ إن تداول السلطة كفيل عادة بامتصاص الاحتقان وحسم وجهة المسائل الخلافية. لذلك وجب البحث عن جذور المأزق المستعصي في دائرة المحدّدات الآيلة إلى تعريف الدولة والمجتمع، ومقاربة واقعهمـا من منظور مختلف ومفهومية متباينـة. أي أن النفور السياسي غلاف لنقائض واعتبارات شائكـة، تختزل، في المحصّلة، نموذج اجتماع وعيش، ونمطاً دولتيـاً، تجد الغالبية منبتهما في حقل الأسرة الدولية وتنحو المعارضة باللائمة عليه، متطلّعة إلى بديله المتمثّل بالمحـور السوري ـــــ الإيراني. تأسيساً على هذه الفوارق، واستثماراً للدفين الوجداني والمؤثّرات المُحرَّفة، يذهب خطاب المعارضة إلى تصوير الخلاف بالمعادلة الصعبة، وتوصيف الخيار المطروح بالمفاضلة بين انتمائها الى أصالة الشرق، ووقوع خصومها في شرك الغرب وغربتهم عن مراد بيئتهم وتكاوينهايستدعي الموزاييك اللبناني جهوداً مستمرّة لصوغ وبلوغ قواسم مشتركـة تحتّمها الضرورة ويمليها وعي الضمير في كلّ مرحلة. بيْـدَ أنّ العصبيات ما زالت تتحكّم بالسلوكيات وتخترق النسيج الاجتماعي. وفي ظروف الاحتقان، تمضي إلى تزمّت مشبَع بالعفوية الغريزيّة. يمكن معاينة مفاعيل هذه الظاهرة ـــــ المعطى في الأداء السياسي عامّة وتفرّعاته التي تنجب أحلافاً ظرفية عابرة لا تنفي تعدّد المناخات البيئية والمرامي داخل المعسكر الواحد، وتؤول إلى رصف شرائح وجماعات جنباً إلى جنب عوض تمازجها وانصهارها.
هكذا، تأتلف المعارضة الحالية على طلب السلطة المشفوع بأبعاد خلاصية، تتجسّد لدى القواعد بالقائد الرمز، فيحتل الأمين العام لحزب الله السيـد حسن نصر الله موقع الزاهد الحكيم الصادق، الأمين على العهد والرسالة، وصاحب الأمر، يقابله زعيم التيار الوطني الحر، العماد عون، في عين أنصاره، الوفي الصامد المؤهَّل حصراً لاعتلاء سدّة الرئاسة. سوى أن التناغم يستوي في مدار التفاهم واللقاء، ولا ينسحب على دوافع كل من الفصيلين ومنظومته العقيدية وفضائه الفكري. على الضفة المواجهة، تتكتّل غالبية 14 آذار حول أقطاب ذوي كاريزما وحضور بين مؤيّديهم، في اجتماع أكثر اقتراباً وتعبيراً عن لبنان التقليدي، وأقل تعويلاً على الرافعة الأيديولوجية واستمزاجاً للخلاصية، وهو ما يجعل لقاءهم «الفوقي» ينساب في مشترك سهل الاستيعاب، على سبيل الدفع والدفاع عن معلوم هوية وطابع كياني.
لكلّ مكوِّن، على معنى لصيق بالطائفة، ميدانه المفضّل، ترتبط تجربته وإنجازاته به شعارياً، ويكاد يصادر كل الحيّز العائد له والمتاح. حزب الله مرادف المقاومة، وريث حركة المحرومين المتمثّلة جزئياً بحركة «أمل»، وفصل المقاومة الوطنية التي عُقد لواؤها لليسار يوماً. تيار المستقبل شاغل خانة الإنماء والإعمار، تكلّله شهادة مطلقه وعميده الرئيس رفيق الحريري؛ دارة المختارة عرين جنبلاطية ساهرة على الجبل بشفاعة البطريرك وسواعد الموحِّدين، عبر مصالحة عريضة قيد الاكتمال؛ التيار الوطني الحرّ رائد الممانعة، حريص على سيادية هيولية في عهدة العماد عون؛ القوّات اللبنانية عربون المقاومة المسيحية القادمة أساساً من رحم الكتائب، حارس الكيانية وداعية الإصلاحية الاجتماعية على خطى الكنيسة الكاثوليكية. وفي جوارهم، وعلى هوامشهم، يتحلّق رهط من الجماعات الهجينة، يميناً ويساراً، يدور معظمها في فلك الحاضنة السورية. على هذه المقدّمات، تترعرع وتنمو خصوصيات مناطقية ومذهبية، رائدها الدفاع عن المواقع والمكتسبات، واحتلال المساحة الأكبر في ما تراه بستاناً موكولاً إليها، تُعنى به على وجه الصدارة والأولوية بعامل التنوّع وفعل الموروث الساكن في المخيلة الفئوية إلى حدّ الأسطرة الخرافية والمسلّمة الدائمة.
على هذا النحو، تعمل النوازع وتقارب المهمّات والمواسم والاستحقاقات. ولئن أضحت رئاسة الجمهورية على أبواب انتهاء ولاية ممدّدة، يستشعر المسيحيون، والموارنـة خاصة، بدور مميز في هذا المضمار، وأهلية المتقدّم بين متساوين، نظراً لأهمية المنصب الرفيع المنوط بهم وفق الدستـور، وعوائده المرتقبة وتداعيات الانتخاب على مسرح السياسة بأكمله. لذا، بشكل عفوي وعضوي، يستثير الشجار حول النصاب، واحتمال المقاطعة، هواجس من فراغ الرئاسة وحرمان أصحابها الشرعيّين من منصّتهم الأرفع. فالمسألة على قدر كبير من المحمول النفسي والحساسية المعهودة تبعاً لما كشفته سوسولوجيا الجماعة وأظهرت منسوبه اللاواعي غالباً. كذلك يتوّلد، لدى عموم المسيحيين، استياء من قبض شركائهم على دفّة التوجيه، وربّما الحسم والاختيار، متناسين أن الكلمة الفصل، أقلّه في استنساب الترشيحات، إنما تعود تلقائياً وميثاقياً للطرف المسيحي، على غرار المعتمد في سائر الرئاسات.
إنّ التعريف المفهومي والتنبّه إلى المناخات المحيطة بموضوع رئاسة الجمهورية، مدخل فكّ الأحجية وولوج الاستحقاق عملياً بعد بيان الجوهر. وحيث يطرح التوافق المسبق بديلاً عن النص الدستوري القائل بالانتخاب السرّي، تزداد تعقيدات حُبلى بالتشنّج والتساؤلات. فعلى سبيل المثال، يُطرَح السؤال عن مدى صوابية وفاعلية إصرار المعارضة، وفي مقدّمها حزب الله، على الصفة التمثيلية الكاسحة مسيحياً للعماد عون، علماً بأن التعدّدية من صميم تراث الجماعة بشواهد التاريخ الوسيط والحديث، مهما كثرت التأويلات وتباينت نتائج انتخابات نيابية على خلفية تهميش المسيحيّين ومصادرة إرادتهم. كذلك، ثمة امتعاض مكبوت من ترداد الوقوف وراء بكركي والإشادة بـ «حكمة البطريرك ومرجعيته الوطنية»، والتصرّف العملي نقيض المعلن، في ما يُشبه الإملاء، والظن بمرشّحين مقرّبين منها بشهادة القاصي والداني. الحقيقة أن بدعاً غير مألوفة وُضعت قيد التداول اليومي، تعظّم من شأن مراجع وطوائف وتقاليد، في معرض التفيّؤ والمحاكاة اللفظية، بغية الالتفاف على المجلس التمثيلي وإفراغه من كل وكالة، بالإضافة إلى الإخلال بالطابع المدني للسلطة والمؤسسـات.
لقد قلَّص الطائف صلاحيات رئاسة الجمهورية، وعيَّنَ كيفية النفاذ إلى الوفاق الوطني. المستغرب أنّ فريقيْ النزاع، الموالاة والمعارضة، على شرودٍ من هذا الأمر لأسباب مختلفة تفتح باب اجتهاد لاحق قد يطال التوازن الهش الذي أرسته وثيقة الوفاق، وتثبّته في متن الدستور. فمن موقع يعلو النزاعات ويرمز إلى الوحدة، جُعلت حقبة الرئيس إميل لحود من الرئاسة دار خصام وانحياز لا مبرّر له دستورياً ووطنياً. الأخطر أن تصبح هذه القراءة سارية، وقابلة للاستمرار بغير ضوابط ولا أحكام. إنّه لمن قبيل الاتّعاظ، لا الموعظة، أن يعود المتخاصمون الى جادة الرشد والعمل الدستوري، وهو ما يوجب الإقرار بالآليات المتوافرة نظامياً، واحترام منطق الدستور المتقدّم على الأعراف.
وأياً كانت حدّة الخلافات، يكفل المنطق الدستوري الميثاقية وصحّة الانتخاب، ويتكفّل بتصويب الانحرافات وتطويب الرئاسة لمن يقف واجباً على مسافة من الأفرقاء حالما يرفع إلى سدّتهـا. غير ذلك من تراشق وتجريح، لا معنى له في السياسة الحكيمة، ولا دور له في الحفاظ على المؤسّسات والأوطان.
إنّ معركة الرئاسة تمرين حضاري شفّاف يتساوى في نهجه الخاسر والفائز على السواء. فليست لعبة طرابيش نتائجها أبدية لاغية طالما تمّ الالتزام بتداول السلطة، وانتُخب من يوفّر الأمان والمساواة.
* كاتب لبناني