بنيت الكثير من التحليلات مؤخراً على دخول حلفاء أميركيين لصقاء (بريطانيا، ثم تبعتها ألمانيا وفرنسا وإيطاليا) كأعضاء مؤسّسين في مصرفٍ دولي جديد تقوده الصين، «البنك الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية». ويتوقّع أن تنضمّ كوريا الجنوبية وأوستراليا ودول أخرى أيضاً الى المصرف الذي يبلغ رأسماله 100 مليار دولار ــ تقدّم الصين نصفها ــ قبل نهاية الشهر وانقضاء المدة المحددة لاستقبال شركاء جدد.
وكما أوضح العديد من المعلّقين، فإنّ هذا المصرف ليس أوّل أو آخر تدخّل للصين في السوق المالية العالمية؛ فالصين تخطط لمصارف استثمار إقليمية ودولية لا تقل أهمية عن «البنك الآسيوي»، وهي صارت، بالفعل، مصدراً لإقراض الحكومات التي لا تتوافق مع النظام المالي العالمي (فنزويلا كانت، بالتأكيد، ستواجه الإفلاس لولا أكثر من 50 مليار دولار من القروض الصينية، زادت خمسة في الأسابيع الماضية، والأمر ذاته ينطبق على الأرجنتين).
مصدر هذه القوة ليس قراراً سياسياً من بكين، ولا خطة عشرية لتحدي النفوذ الأميركي، بل هو يتعلّق بطبيعة السوق الرأسمالية واندماج الصين فيها. كل هذه الاستثمارات الصينية في الخارج هي، فعلياً، منافذ لتوظيف احتياطات العملة التي يكدّسها المصرف المركزي. يراكم «المصرف الشعبي الصيني» كميات هائلة من الدولارات، وهذا الاحتياطي هو ــ بتبسيط ــ مكوّن من الفارق بين كمية الدولارات التي يبيعها الأجانب للمصرف المركزي من أجل شراء بضائع صينية مستوردة أوالاستثمار في البلد، وكمية الدولارات التي يطلبها التجار والشركات في الصين لشراء بضائع أجنبية والاستثمار في أسواق خارجية. الفائض التجاري الصيني الكبير في العقود الأخيرة أدّى الى بناء رصيدٍ بالعملات الأجنبية يقارب اليوم أربعة تريليونات دولار (أربعة آلاف مليار دولار).
وجود فائض مالي هو أمرٌ جيّد، لكنّه يطرح سؤالاً حول كيفية استثماره حين يزيد حجمه عن حدّ معيّن؛ فهو أرصدة بعملات أجنبية، ويجب أن يبقى أكثره خارج الاقتصاد، فاستثماره في الداخل ــ أي تحويله الى العملة المحلية ــ سيؤدي الى اهتزازات في قيمة العملة ومعدل التضخم، وقد يؤذي تنافسية الصناعات والاقتصاد الوطني (يدّعي الأميركيون أن الصين تتقصد الابقاء على الـ»ريمينبي» دون قيمته الفعلية بمثل هذه الوسائل). فماذا تفعل بهذه الأرصدة الضخمة، وأين تودعها، وكيف تضمن أن تحافظ على قيمتها؟
حتى أوائل الألفية الثالثة، كانت الصين تحتفظ بجلّ احتياطاتها المالية على شكل سندات خزينة أميركية، كما تفعل الكثير من الدول التي تحوّل احتياطاتها الى قروض للدولة الأميركية، وهي تعتبر وسيلة ادّخار مضمونة وآمنة للاحتفاظ بالدولار على المدى الطويل. ولكن، في السنوات العشر الماضية، قرّرت بكين ألا تقصر اعتمادها على السندات الحكومية التي تصدرها واشنطن، وبدأت بتنويع منافذ استثماراتها. لم تقم الصين ببيع وتقليص حصتها من السندات ــ كما فعلت روسيا ــ وهي لا تزال أكبر زبون لسندات الخزانة الأميركية، ولكنّ هذه الحصة قد توقّفت عن التوسّع.
بين عامي 2010 و2011، وصل الاستثمار الصيني في الدين الحكومي الأميركي الى ما يقارب 1.3 تريليون دولار، وهي قمة لم يتمّ تجاوزها منذ ذلك الحين، بينما ارتفعت الفوائض المالية الصينية ــ في الفترة نفسها ــ من 3 الى 4 تريليونات دولار. الاستثمار الصيني في السندات الأميركية ثابت إذاً، فيما الاحتياطات المالية تتزايد، فماذا تفعل الصين بهذه الدولارات المتراكمة؟
في المبدأ، هناك وسائل لتنويع الاحتياطات، كأن تحوّل جزءاً منها الى سبائك ذهبية، وهو ما فعلته الصين، إذ رفعت احتياطاتها الرسمية من أقل من 500 طن عام 2001 الى آلاف الأطنان اليوم. وبإمكانك أيضاً أن تشتري سندات بعملات غير الدولار، كاليورو والين، وهو ما تفعله الصين أيضاً بكثافة، أو أن تحوّل هذه الأرصدة الى شركات وصناديق «سيادية» تقوم باستثمارات واستملاكات في الأسواق العالمية، والصين أنشأت عدة شركات لهذا الغرض (كشركة الاستثمارات الصينية وشركة SAFE للاستثمار)، وهي مؤسسات لا نسمع عنها كثيراً في الاعلام، إلا أن قيمة محافظها الاستثمارية أكبر بكثير من أي صندوق سيادي خليجي.
غير أن هذه الأدوات، مجتمعة، لا تكفي إلا لاستثمار قسطٍ متواضع من الاحتياطات الصينية المتزايدة، ومن هنا جاءت فكرة إنشاء مصارف الاستثمار. إن كانت الصين تملك احتياطات أجنبية كبيرة، وتبحث عن منفذٍ لاستثمارها، فلماذا لا تؤسّس مصرفاً؟ وإن كان النظام المالي العالمي، بهندسته التي أقرّتها أميركا إثر الحرب العالمية الثانية، لا يعطي بكين مكانها المستحقّ في مؤسساته، كالبنك الدولي وصندوق النقد، فلماذا لا تنشئ الصين نظاماً موازياً؟
دخول الصين الى سوق التمويل الدولية هو نتيجة طبيعية لاستحواذها على نسبةٍ متزايدة من رأس المال العالمي. وانضمام دولٍ غربية الى هذه المؤسسات هو اعتراف منها بهذه القدرة الصينية التي لن تزول قريباً، بل ستتعاظم. أمّا خيبة أميركا من خيار حلفائها، فهو لا يعكس مجرّد هزيمة دبلوماسية كما تقول التقارير، ولا هو نتيجة شعورٍ بالتخلي و»الخيانة»، بل لأنّ هذه التغييرات قد تمسّ الأساس الجوهري للقوة الأميركية، وقد تكون لها مضاعفات قاتلة على الاقتصاد الوطني وأسلوب الحياة الأميركي، إذ إنها تهدد هيمنة الدولار في العالم والطلب غير المحدود عليه ــ وهذه قصّة أخرى.
4 تعليق
التعليقات
-
تنسيق بالضرورةفي تجارب مثيلة للتي نتحدث عنها و بوجود حتمي للقوة الإقتصادية الأكبر في العالم حتى الآن وهي الولايات المتحدة , لا يمكن أن تتم خطوات كهذه دون وجود على الأقل تنسيق لعدم تجاوز خطوط متفق عليها بين القوى الإقتصادية العالمية وعلى رأسها القوتين الأساسيتين ( الولايات المتحدة والصين ) ومثال سندات الخزينة في الأزمة الإقتصادية في أمريكا خير دليل أنه لا يمكن للصين أن تقوم بخطوة تفقد فيها الرئة التي تتنفس منها .
-
الفائض التجاري الصينيهو محور قوة الصين، ولكنه نقطة ضعفها ايضا: انتاج صناعي قوي، وتصدير يفوق الايراد. قضية بنوك الاستثمار مرتبطة بالكساد العالمي الذي يضعف القدرة الشرائية في الاسواق التي تستورد البضائع الصينية، وهو ما يهدد النمو الاقتصادي للصين. فضخ الاستثمارات سيكون كفيل بتعزيز هذه القدرة الشرائية. من مصلحة دول اوروبية، خاصة المانيا (الدولة المصدّرة رقم 2 في العالم بعد الصين) ان تستثمر في هذا المصرف، لأن صادراتها مهددة ايضاً. وهو نفس النموذج الذي اتبعته المانيا في سنوات كسادها بين 2002 و2007، حيث ضخت القروض في عدة دول اوروبية، خاصة اسبانيا وايطاليا واليونان، لكي تعزز القدرة الشرائية هناك. والنتيجة طبعاً معروفة: المانيا خرجت من الكساد ﻷن معدلات الانتاج في المانيا والتصدير الى هذه الدول ارتفعت، ودول جنوب اوروبا دخلت الى فقاعة نمو، حينما انفجرت، دخلت اقتصاداتها الى كساد. ليكون واضح: تتعامل الدول المصدرة مع هذه السياسات كموديل للنمو الاقتصادة، وليس كخطة طوارئ لخروج من كساد (المانيا) او للحيلولة من الدخول اليه (الصين). ولكنه لا يمكن التعامل معه كموديل، لأن الحل يزيد من المشكلة الاساسية، أي اعتماد الاقتصاد والنمو على الصادرات. أما بالنسبة للولايات المتحدة فليس لها مصلحة في الدخول الى هذا المصرف، فحجم صادراتها لا يفوق 13% من حجم الانتاج، اي ان اقتصادها لا يعتمد على اسواق خارجية. وهذا منبع القوة الامريكية.
-
تعليقالفارق بين استثمارات الصين في الخارج وبين الاستثمارات الصينية في الخارج ، يضاف إلى ذلك شراء البضائع الصينية بالدولار الأمريكي ، إضافة إلى الميزان التجاري لصالح الصين مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي كل ذلك وراء هذا الفائض من الدولارات لدى الصين
-
و ما هو موقف اليابان و الهندو ما هو موقف اليابان و الهند من صعود الصين بهذه القوة و حتى بدون استفزاز امريكا هل ستسمح امريكا بأن يتهدد عرش الدولار بهذه السلاسة ؟ و هل ممكن أن يتكرر سيناريو التنافس الامبريالي قبل الحرب العالمية الأولى ؟ عندما انفصلت بريطانيا وهي مركز الثقل المالي العالمي عن المانيا هي المركز الثقل الصناعي فكانت الحرب العالميةحيث اليوم الصين هي المركز الصناعي و امريكا هي المركز المالي ..