الياس فوز *
«نحن محكومون بالأمل»! قالها الأديب السوري سعد الله ونّوس مسطّراً ثقافة الحياة التي خسرها تحت ضربات مرض عضال بعد مقاومة قادها لسنين طويلة. إذا ما أعدنا قراءة الواقعة المذكورة، فسيخرج من معادلة ونّوس عنصران: الحياة والمقاومة. ويظهر ارتباط هذين العنصرين العضوي بحيث يتكاملان، فيكون الأول من دون الثاني تبجحاً نظرياً، أما الثاني من دون الأول فلا مكان له أصلاً. فونّوس الذي يظهّر الأمل هنا حكماً قدرياً لا هروب منه، قاوم مرضه حتى الرمق الأخير، مثبتاً معادلته. إن ارتباط مفهومي الحياة والمقاومة عنده وثيقٌ بحيث تولد المقاومة من رحم ثقافة الحياة لتشكل أمل بقائها، وتكون الحياة هاجس ثقافة المقاومة، فهي علة وجودها.
يأتي استحضار مثال ونّوس هنا بما هو مثالٌ فرديٌ يعبّر عن ثقافة فرد وتجربته الشخصية لقطع ألسنة السوء التي تنتفض كلما حضر مثالٌ اجتماعيٌ أو تاريخيٌ عن ارتباط هذين المفهومين، أكان من تجربة حركة التحرر العالمي أو من مدرسة فكرية ما. فيثور أصحاب ألسنة السوء هذه، مستنفدين كل ما يملكون من أدبيات عن «اللغة الخشبية» و«مفاهيم العصر الجديد» أو «أوهام الأوتوبيا»، إلى ما هنالك من العبارات التي أصبحت تهماً معلّبةً جاهزةً في ما يشبه ممارسات أكثر الدكتاتوريات بطشاً. وصلنا اليوم الى حال يسمح فيها استعمال المرادفات المتعارف عليها حصراً، فلثقافة الحياة تعريفٌ وحيدٌ، أما الخشبيات كالمقاومة وما شابهها فيقع ضمن دائرة ثقافة الموت. وقد يخرج هنا أخٌ كبيرٌ من رواية جورج أورويل ليقوّم أخلاقيات كل ناطق بلغة مرّ عليها العصر وروحه!
كتب ويلهلم رايش في كتابه «سيكولوجيا الجموع في الفاشية» عن ارتباط ذوبان الفرد ضمن الجموع ونشوء مفاهيم منزلة تلامس المحرّمات، لا تقبل المسّ بها. وتطال هذه المفاهيم كافة الأبعاد الفكرية والثقافية والاجتماعية فينشأ قاموسٌ معنويٌ يعرّف الحياة والحرية والعدو والعقيدة والحقيقة(...) مكوّناً بذلك اللغة المقبولة الوحيدة ضمن الرؤية الفاشية وما يخرج عنه ليس سوى هرطقة تحاسب «المحاكم الروحية» عليها. هناك تقاربٌ مخيفٌ بين ما عالجه رايش في كتابه والمنظومة الفكرية التي أخذت أخيراً تسوّق «ثقافة الحياة» على طريقتها. وتظهر هنا وثاقة الارتباط بين ثقافة الحياة ونظام رأسمالي متوحش الى أبعد الحدود (وإن صبغ أحياناً بلون الاشتراكية العصرية). إن هذه المنظومة ترى ثقافة الحياة من حيث هي إعلاءٌ منقطع النظير لمصالح الطبقة المسيطرة وانفتاحٌ شاملٌ للأسواق. فنراها تقرأ أي مساس بمشاريعها «الحياتية» كمساهم في ضرب الاقتصاد الوطني ومهدد للاستقرار المالي، بينما تسير هي في سياسة اقتصادية معولمة على النمط الأميركي. ويلحظ هنا التشابه بين تسويق «نمط الحياة الأميركي» و«ثقافة الحياة العصرية»!
ترتبط ثقافة الحياة من ناحية ثانية بمقاربة للسياسة تواكب ما يسمى «روح العصر». فالارتباط العضوي مع العولمة الاقتصادية يترجم تبعيةً سياسيةً للقوى على الكوكب، بحيث يقوم حبّ الحياة على الاجتناب المطلق لأي رفض أو همس بالرفض لما يسمى «الإرادة الدولية». هكذا يتجلّى منطق تحييد الذات لاتّقاء أيّ شر حتى لو كانت القضايا المطروحة تتعلق بمفاهيم كالسيادة أو حرمة الأرض أو القرار الوطني. فلكل هذه المفاهيم تعريفاتٌ جديدة تقدّمها ثقافة الحياة، هي تعريفاتٌ تشبه الخنوع، لكنها عصريةٌ، آمنة وتؤمّن الحياة المديدة.
وارتباط ثقافة الحياة من ناحية ثالثة بمنظومة فكرية هو الارتباط الأخطر، إذ له الضلع الأساسي في نسج المقاربتين الاقتصادية والسياسية. هي منظومةٌ شعبويةٌ اختزاليةٌ تودع كل العلوم الإنسانية سلة المهملات، متمركزةً خلف مقاربات أخلاقية قائمة على مفهومي الخير والشر. فيكون تسطيحٌ لكافة القضايا على أساس ثقافتين، واحدة للحياة وأخرى للموت. الأولى ترمز الى كل الخير الكوني، والثانية هي الشر المطلق. وهكذا بإمكان أحدهم أن يحلل ثقافة الاستشهاد على أنها حبٌ خالصٌ للموت وكرهٌ للحياة، قافزاً بذلك فوق كل مفاهيم علم النفس والاجتماع والسياسة وعلم الاقتصاد المقارن، أو أن يصنف آخر شعباً كاملاً على أنه ابن ثقافة الموت، تتملكه رغبةٌ شيطانيةٌ بوضع حد لحياته، كأنها هستيريا جماعية تقود أصحابها (وهم بالملايين) الى الانتحار الجماعي.
ما عاد منظّرو ثقافة الحياة يعترفون بالإرث الفكري للبشرية. فالقمامة مرتع ألبير كامو، ومسرحية «العادلون» حيث استخلص كامو الحب البشري للحياة من خلال فعل الموت. كذلك حال فرويد و«إيروس» و«ساناثوس»، وارتباط الجموح نحو الموت بالجنس واستمرار الحياة. أما وجودية سارتر بإنسانيتها ونضالها الدائم نحو الحرية والحياة فلعلّها لم تلد يوماً. لا يرى مثقفو الحياة من كل ذلك سوى شعارات شعبوية يسوقونها من كل حدب وصوب، ينادون عليها علّها تباع معهم. إنها ثقافة الاستهلاك!
ظهر مع نشوء التركيبة العصرية للأحزاب وانتقال مفهوم العمل السياسي من إطار مجموعة تابعين لإقطاعيات أو رعايا بلاط ملكي الى مجموعات تتحلق حول فكر معين أو عقيدة ما، مبدأ نشر هذا الفكر أو العقيدة وهو ما عرف بالدعاية أو البروباغندا. وقد اتخذت هذه الدعاية أشكالاً مختلفة كالمنشورات والكتب والملصقات أو البرامج الإذاعية والتلفزيونية لاحقاً. وقد لعبت هذه الدعاية دوراً أساسياً في انتشار الفكر، وكان منها الإيجابي أي الذي ساعد على تطوير الفكر البشري وانتشاره، ومنها السلبي الغارق في الديماغوجيا والمساهم في كتابة قاموس الفكر الواحد. ونما بشكل مواز نوع آخر من الدعاية، جاء مع تسخير تطور العلم في نمو الصناعة وانتقالها الى نمط الإنتاج الكمي، وهو الدعاية الاستهلاكية. فإذا كانت الدعاية بشكلها الأول الإيجابي منه تخاطب مواطنين، طارحةً فكراً، فهي بشكلها الثاني تتعاطى مع مستهلكين محاولةً توسيع أسواق منتجها واكتساب مستهلكين جدد أو إكساب مستهلكيها عادات جديدة. وقد نمت الدعاية هذه بسرعة، واتسعت دائرة اهتماماتها من الحاجات اليومية كالمأكل والمشرب لتطال كامل أبعاد الحياة بكل مفاهيمها. فنشأ مفهوم المجتمع الاستهلاكي حيث حل المستهلك مكان الفرد، وتحولت حياته الى مجموعة سلع. وتوسع مفهوم الاستهلاك ليطال الفكر، فارتبطت السياسة بنمط الإعلان السياسي الى حد أصبح كأنه اللاعب الأساسي في المعادلة السياسية، فطغى شكل تقديم الفكر على مضمونه. هنا تكمن خطورة ما يمارسه مثقفو الحياة بنسختها العصرية من خلال تحويل هذه الثقافة الى منتج استهلاكي من الطراز الأول يقدّم إلى الزبائن الكرام بأحدث وسائل الدعاية وأفخر أشكال العرض. ويساهم مبدأ تغليب شكل المنتج في إذكاء منطق اختزال الفكر الذي ذكرنا، وبالتالي التسطيح الغبي لأبعاد الحياة.
لقد أصبح لثقافة الحياة بالإضافة الى المنظّرين الديماغوجيين، ألوان ولوحات إعلانية وبرامج تلفزيونية وحملات أو حفلات أمل وفرح. فارتبطت هذه الثقافة بالنظام الاقتصادي الليبرالي حتى أخذت شكله، مكرسةً مبدأ استلاب الفكر السياسي و«ألينته» الى حد ظهور ما يشبه برامج انتخابية قائمة على قاعدة حب الحياة وكره الموت!
يدرس علماء البيولوجيا منذ عقود مفهوم غريزة البقاء (1859، ظهور نظرية داروين). وتتمحور حياة كل كائن حيّ حول هذه الغريزة، هي تتبلور لدى الإنسان لتأخذ شكلاً أكثر تعقيداً فتصبح فكراً ينتج ثقافة الحياة. كما يصبح صراع البقاء أكثر تركيباً فيأخذ شكل ثقافة المقاومة. لربما أراد منظّرو الثقافة العصرية للحياة إعادة البشرية إلى عهدها الحيواني فاتّخذ منطقهم شكل المخاطبة الغرائزية، يغلّفونها بغلاف جميل، يعطرونها ويعدّونها للاستهلاك، يقدمونها للمستهلكين بأبهى حلّتها... ومن يدري لربما يجتاح الأسواق منتجٌ جديدٌ... «ثقافة الحياة» معبأةٌ بقوارير مشروبات غازية، بطعم رائع وأسعار مغرية.
* كاتب لبناني