كمال خلف الطويل *
أعرف من البداية أنني أمشي إلى حقل أشواك دام، لكن قناعتي بضرورة فتح الباب عريضاً أمام مناقشة مسألة الجيش والنخبة في مصر ـــــ وهي ما طال السكوت عنها دون مبرر ـــــ غلبت على أيّ تحفّظ لدي شرط أن تكون عامرة بالصراحة دونما تزويق ولا مجاملة، إذ لا طائل منها إن لم تكن كذلك بالمطلق... بلا تهيّب ولا وجل.
من يراجع سجلّ سلك الضباط المصري ـــــ ولا أشمل بذلك الرتباء من طلاب وصف الضباط... فضلاً عن الجنود ـــــ منذ ما بعد حرب أكتوبر ولتاريخه، يدرك بيسر أنّ الارتباط الوثيق بالولايات المتحدة عقيدة وسلاحاً وتدريباً ومنظومة وهوىً وتحالفاً هو الفكر الناظم لذاك السلك.
ليست القصّة أن الضباط ينصاعون في ذلك لسياسة رئيس البلاد ومن باب الطاعة والولاء وتنفيذ الأوامر فقط لا غير.
المسألة أكبر وأفدح من ذلك بكثير.
إنّ ثلث قرن من الانضواء تحت الراية الأميركيّة هو في ذاته شهادة دالّة على عمق الولاء، والرغبة فيه والبذل في سبيله، بل والتماهي مع مثاله.
إنّ محطّات فارقة دلّت بما يقطع أيّ شكّ أن ولاء سلك الضباط المصري هو عقد كاثوليكي أبَديّ السمات:
اجتاحت إسرائيل لبنان عام 1982 واقتحمت للمرّة الأولى عاصمة عربية فيما قبع الجيش المصري في ثكناته لا يحرّك ساكناً ولو على سبيل الاستعراض.
احتشدت القوّات الأميركية في السعودية بما يفيض عن نصف مليون تأهّباً لدخول الكويت وتدمير العراق، فوصلت الحال بسلك الضبّاط هنا أن انتقل بقضّه وقضيضه ليكون كتفاً إلى كتف بجانب حلفائه السادة وبقوة فرقتين... ليس هذا فحسب بل وفَّر لهم قواعد الإمداد والسيطرة في المطارات المصرية ومعها المعابر البحرية تمخر عبابها البوارج والحاملات، النووي منها والتقليدي وصولاً لساحة الخليج.
ثم غزت الولايات المتحدة العراق فوفّر لها هذا السلك كلّ التسهيلات، كما فعل قبلها بدزينة من السنين بل وأكثر بكثير.
عبر كلّ تلك السنين، كانت أرض مصر وسماؤها ومياهها بتصرّف الولايات المتّحدة سدح مدح بلا حاضر ولا دستور، بل حبّاً وكرامة من سلك الضبّاط الجزل بما حازه من رضا أميركي... هو المراد والمرام.
ما بين تلك المحطّات الفارقة، جرت بتواتر منتظم مناورات «النجم الساطع» التي جمعت الجيش المصري بالمنظومة الأطلسية فأضحت أفضل سبيل للتدجين والتوضيب وترتيب الواجبات.

دورات غسل الدماغ

ذات يوم من عام 1989، جلس بجواري في الطائرة من فرانكفورت إلى نيويورك عميد مصري ـــــ بزيّ مدني ـــــ وعلى عادة من يتعرّفون على سحنات بعضهم متلمسين الانتماء ذاته، تجاذبنا أطراف الحديث وبالعربية.
ما علق في ذاكرتي مما لا أنساه هو وصفه للدورات التعليمية التي يخضع لها الضبّاط المصريون في الولايات المتحدة، ويا ليته في إطار التدريب العسكري والمهني، بل في إطار دورات غسل الدماغ وما تشمله من محاضرات عن القيم الأميركية والديموقراطية الأميركية وطريقة الحياة الأميركية ومحورية العلاقة مع واشنطن وحيوية ضرورتها لمصر وإلى ما هناك من شعارات أدلجة لا تلين.
لماذا كلّ هذا النجاح في استدخال سلك الضباط المصري في المنظومة الأطلسية؟ لأنّ التربة الذهنيّة مهيّأة لذلك منذ عقود. ما القصد؟

مهمّات خارج الحدود

لقد برهنت تجربة حرب فلسطين 1948 وبعدها حركة الضباط الأحرار 1952 أنّ ما حرّك جموعاً من الضبّاط الشبّان في اتجاه فلسطين أولاً ثم صوب التغيير الداخلي ثانياً كانا حافزين لا ثالث لهما: إسلامي ووطني/ عروبي. خذ نموذج الضباط المتطوّعين في حرب فلسطين: سواء طراز أحمد عبد العزيز وكمال الدين حسين ومعروف الحضري، أم نموذج الضبّاط الذين أبلوا بلاءً حسناً ضمن صفوف الجيش النظامي: محمد نجيب وسيد طه وجمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وزكريا محيي الدين وصلاح سالم في البر، وعبد اللطيف البغدادي وحسن إبراهيم في الجو... تجدهم ممّن امتلأت نفوسهم بنوازع التحرّر ومعاداة الاستعمار والصهيونيةوالحال أنّ العدد المحدود للضباط الأحرار (300 ضابط من أصل 6000 نفذ منهم تسعون فقط الانقلاب) يشي بما أقصد:
يشي بأنّ سنوات جمال عبد الناصر هي الطفرة والاستثناء لا القاعدة، إذ بفولاذية قيادته وجاذبية دعوته وقوّة أمنه استطاع عبد الناصر تطويع الجيش ليكون أداة إنفاذ لسياسته الإقليمية والقومية: إنزال وحدات المظلّات في اللاذقية/ تشرين 1957، تنفيذ حشد فيلق في سيناء/ كانون الثاني 1960 والمفاجأة الكاملة لبن غوريون بهدف تخفيف الضغط عن إقليم الوحدة السوري... الخروج إلى اليمن/ 1962 بدءاً بكتيبة وانتهاءً بفيلق أو يزيد... إنجاد ثورة الجزائر أثناء خوضها حرب الرمال مع مغرب الحسن الثاني/ تشرين 1963... حماية نظام القذافي الوليد بحشد قوة مدرعة على الحدود الليبية... تسليح وتدريب المقاومة الفلسطينية 67 ـــــ 73 وقمع تمرّد المهدية في جزيرة أبا/ السودان.
واللافت هنا أنّ هذه المهمات الثقيلة خارج الحدود كانت تنفذ بروح الانضباط العسكري دون كثير من الحماسة القناعوية أو الإيمانية، دون إغفال أهمية الامتيازات المصاحبة لهذه المهمات... وهي ما تفشّى مثل الطاعون أيام حرب اليمن. مقصد القول أنّ طفرة يوليو هي ما وضع سلك الضباط في مناخ العروبة، وهي ما قسرهم على تغيير العقيدة العسكرية ومنظومة التسلّح من غربية لشرقية، وهي ما وضعهم في طليعة المواجهين لإسرائيل رغم نكبة 48 ومفاعيلها السلبية على الجيش المصري.
إنّ ثلّة واسعة من الضباط قادها جمال عبد الناصر هي من أنفذ سياساته داخل الجيش وخارجه. وهم فيما تحلّوا به حملوا علامة واسمة هي القناعة بسياسات قائدهم والدأب على المضي بها تطبيقاً وإعمالاً، وإن بالتجربة والخطأ.
هؤلاء المئات هم من انبثّ في الإعلام والاستخبارات والدبلوماسية والحكم المحلي والقطاع العام ـــــ مع بقاء البعض في الجيش ـــــ ليحمل على أكتافه مشروع نهوض لم ترَ مصر له مثيلاً منذ خوالي محمد علي.
لكن السواد الأعظم من سلك الضباط كان يتماشى مع خط النظام بقوة الدفع، وبحوافز المزايا والامتيازات التي وفّرها المسؤول السياسي عن الجيش عبد الحكيم عامر، فأمنه بواسطتها من أخطار التآمر والانقلابات، وإن تسبّب ـــــ في السياق، في إضافة الدعوة إلى العزوف لتستولد خلطة من السلبية تبدّت في:
1ـــــ الفشل الذريع في إدارة انسحاب كفوء من سيناء بعد الإنذار البريطاني ـــــ الفرنسي يوم 30 تشرين الأوّل 1956... تلكّأت هيئة أركان الحرب في القبول بالانسحاب، ثمّ بعد أن اقتنعت قرّرت أن يكون إلى الشرقية لا غربي القناة، ثمّ سمحت لظاهرة الفرار أن تتفشّى بين الضبّاط الناجين بأنفسهم كيفما اتفق تاركين آلياتهم للدمار الذي فاق مداه ما كان يمكن احتسابه... عدا جبن القيادات العسكرية في بورسعيد واستسلامها المهين لحظة أحسّت ببوادر الانزال.
2ـــــ سلوك العديد من الـ 1400 ضابط منتدب للخدمة في الجيش الأول (السوري) سنوات الوحدة... وفيه الكثير من العنجهية والتعالي، وهو ما وفّر تربة خصبة لأعداء الوحدة في النجاح بالتآمر عليها وفصم عراها، بل قبع جلّ هؤلاء الضباط ساكنين يوم الانفصال فكانوا مثل البطّ ينتظر صائده.
3ـــــ الفشل الذريع في قيادة عمليات اليمن تحت الإشراف العام لعبد الحكيم عامر، وسواء كان القائد الميداني أنور القاضي أم عبد المحسن مرتجي أم أحمد عبد الغني أم علي عبد الخبير أم سعدي نجيب.
فقط مع ربيع 1966، وبعد سنوات ثلاث ونصف السنة من بدئها، اتخذت مساراً معقولاً من النجاح تحت قيادة طلعت حسن.
4ـــــ الخيبة الكبيرة، سواء في الاستعداد لحرب 1967 أو في خوضها، أبلغ تعبير عن سوء الحال.
كان ما قاله عبد الحكيم عامر ذاته يوم انتهاء التحشيد ـــــ 20 أيّار ـــــ في وصف عملية تحريك خمس فرق إلى سيناء هو أنها أشبه بتحرّك الجيش عام 36 ـــــ بلَدي أَوي ـــــ فما كان منه إلا أن أقال قادة الفرق مستبدلاً إيّاهم بآخرين ممّن أثبتت الوقائع أنّ بعضهم كان أسوأ من السوء، ثمّ عندما بدأت العمليات وجدنا فرقة القسيمة تنهار مثل قشّة من ورق منذ الساعات الأولى وتصحبها في السقوط فرقة رفح (التي استشهد قائدها اللواء عبد العزيز سليمان) لينفتح الباب سريعاً أمام تهاوي خط الدفاع الثاني.
وما أن صدر قرار عبد الحكيم عامر بالانسحاب الفوري والكيفي وعبر القناة بعد ظهر اليوم الثاني للحرب، إلا كان قائد الفرقة المدرّعة الرابعة صدقي الغول قد وصل بلمح البصر إلى ضواحي القاهرة، وخبرنا أنّ قائد الجبهة عبد المحسن مرتجي قد وصل الإسماعيلية، وذهلنا من الكمّ المهول لحكايات الفرار الذي يسابق الريح لجموع غفيرة من الضبّاط تركت جنودها في العراء ومعدّاتها للدمار وهرعت للنجاة دونما نظام ولا تنظيم.
إنّ عثمان نصار وجمال فرغلي ومحمد كامل أمثلة ساطعة على الفشل غير المبرّر، وفوقهم تاج رأسهم صدقي الغول هذا دون التطرّق حتى لنماذج صدقي محمود وإسماعيل لبيب.
5ـــــ المبالغات الفادحة في انتحال انتصارات ومنجزات لا حقيقة لها البتة... هل أتاكم حديث كذبة تدمير دشم خط بارليف بنيران المدفعية المصرية 69 ـــــ 70 ؟
رغم ذلك، يمكن المرء القول إنّ حرب الاستنزاف بمجملها كانت حرباً استنفر فيها العصب المصري للآخر، فالمهانة فادحة والأرض محتلة والعدو مستفز، لذا كان الأداء ـــــ رغم اختلال موازين القوة النوعية ـــــ معقولاً.
6ـــــ الطامّة الكبرى كانت في حرب أكتوبر، عندما أصرّ قادة فرق العبور الخمسة من المشاة على حيازة لواء مدرع لكل
فرقة فوق نصابها وإلا فلا عبور.
سبق ذلك تهرب القيادات العسكرية من خوض الحرب ـــــ حتى المحدودة ـــــ قدر ما استطاعوا، وهم لم يذهبوا إليها إلا مضطرّين، مثلهم كمثل قائدهم الأعلى أنور السادات الذي مضى إليها وفي ذهنه ابتسارها بل إجهاضها، لتكون معبراً وفقط لا إلى سيناء بمعناها الجيوستراتيجي، بل إلى واشنطن لتعتمده شاهاً ثانياً، لكن غرب السويس لا شرقه.
لنتذكّر سوء أداء الطيران المصري أثناء الحرب وكذبة الضربة الجوية الحاسمة في افتتاحيتها... إذ رغم كل ما نعرفه عن الفارق النوعي بين الطيران الإسرائيلي وذلك المصري فإن خسائر الأول ـــــ بسبب الدفاع الجوي المصري ـــــ كانت تسمح بدور أنشط وأفعل للثاني، أقلّه في توفير الدعم الجوي للقوات البرية.
لنتذكّر الدفرسوار وكيف تحوّلت سبع دبابات يوم 15 أكتوبر إلى قرابة فيلقين بعد أسبوع... ثم فشل ضرب الأجناب من الغرب أو الشرق... ثم فشل الانقضاض على الجيب الصغير بقوّات خاصة مجوقلة أو محمولة... وكيف دبّ شلل قيادي عارم من مستوى الفرقة إلى الجيش إلى أركان الحرب، ثمّ كان سوء الختام حصار الجيش الثالث واحتمال حصارالثاني لو استمرت المعارك.
ما أنجزه سلك الضباط بإتقان كان ما تدرّب عليه آلاف المرات، أي عبور القناة ـــــ وهو إنجاز بكلّ المقاييس لعمري عظيم، ثمّ ما استطاعه من صد الهجمات المضادة طيلة السابع والثامن من أكتوبر وامتداداً للتاسع.
بعد ذلك استنفذ «السلك» طاقته وبدأ يعتاش على ما أنجزه في الأيام الأربعة الأولى دون استثماره أو إجادة الدفاع عنه.

كره الجيوش لوزراء الدفاع

الراجح عندي أنّ كراهية معظم قادة الجيش لوزير حربيتهم بعد 67 ـــــ محمد فوزي ـــــ لم تكن أساساً بسبب قسوته وشدّة ضبطه وربطه، بل لأنه كان يجرّهم من تلابيبهم إلى خوض حرب أملوا أن تقيهم السياسة من خوضها خشية وتهيباً من إسرائيل الأميركية.
لاحِظوا مدى النفور العارم الذي ساد أوساط «السلك» ضدّ وجود الخبراء والمدرّبين والمستشارين السوفيات المتعاظم بين ظهرانيهم بعد هزيمة 1967. فجأة طنّت رنة الاحتلال السوفياتي وشرور الإلحاد وتهديد الاستقلال الوطني...
من يتابع كيفية النظرة للأميركيّين ـــــ الذين ورثوا السوفيات ـــــ لا يجد أي امتعاض أو تضايق أو تناء من «السلك»، رغم كلّ التأييد لإسرائيل والتضاد مع قضايا المنطقة، إذ المهم ـــــ بل الأهم ـــــ هو النعم والحداثة والغرب والإنكليزية والحضارة والبيئة المرغوبة.
هنا الدفيئة والأديم والحليف والسند بل والسيد... له الأرض والسماء والماء، ومنه الرضا والبركات ودوام الفضل... تلك هي الحقيقة دون مداورة ولا تحايل.
إنّ سلك الضباط المصري هو في التحليل الأخير إفراز بيئة، هي النخبة المصرية التقليدية التي احتارت مع نفسها ومع العالمين متأرجحة بين فرعونيتها ومتوسّطيتها وتأوربها وأفريقيتها، ونائية ما وسعها الجهد والطاقة عن عروبتها وإسلامها (بالمعنى الجيوستراتيجي لا الشعائري طبعاً)، إلا من رحم شرائح آمنت بعروبة مصر... أو من تيّار إخواني ضمر عندما كانت تلك الشرائح في الحكم لما طرحته من مشروع نهضوي توحيدي سحب البساط من تحت أقدامه فأحال نفسه إلى دمية بيد أعوان الاستعمار من عروش «عربية»... ثم ما لبث أن اتسع وتضخّم مع غياب قائد المشروع، ومع نجاح الثورة المضادّة في دقّ إسفين بين جمهور من البؤساء شوّهت أمامه صورة القائد وتياره... وبين الأخيرين.

ميزانية من خارج النظام المالي

نصل الآن إلى فصل المقال: هل من وعد يعتمل في أحشاء سلك الضبّاط المصري، وباق له من الزمن فترة محدّدة؟
الحق عندي أنّ طفرة يوليو هي طفرة لا استنساخ لها... الجيش الآن عارم الاتساع لجهة العدد... يتسلم فيه ضباطه معاشاً خاصاً خارج النظام المالي للرواتب من رئيس الجمهورية، رشوة علنية لهم يرضاها ويرضونها معه.
لقد تفشّى فيه فساد مشتريات السلاح التي ينظّمها أعوان حسني ويطعمون فيها ضباطاً عاملين ما يشبع أي نهم... ويخرج من صفوفه متقاعدون يزحفون بالمئات على الشركات الخاصة وقطاع الأعمال، إضافة لمواقع الحكم المحلّي عبر البلاد.
في يوليو تواطأ واحد من كل عشرين ضابطاً، ونفّذ واحد من كل سبعين ضابطاً انقلاباً على النظام. إذا استعملنا النسبة ذاتها ـــــ على سبيل القياس ـــــ لاحتجنا الآن إلى لواءين من الضباط ليقوموا بالخطوة ذاتها... وذلك ضرب من شبه المحال.
إنّ مصر كلّها، بنخبها العسكرية أو المدنية، تحتاج إلى أن تسائل نفسها: لماذا أنا على هذه الضعة؟
إن النتاج الاجتماعي والعوامل التاريخية والجغرافية والجيولوجية في مصر، كلّها تقطع بأن الذلة والضعة هما صفتا نخبة عاجزة شائهة بلا جذور ولا جذوع، وحال من مسكنة لا تكفّ عن مصر الشرور ولا تبعد عنها المواجع. قيمة مصر في محيطها ـــــ من حلب لجوبا ومن الإحساء لسوس ـــــ هي أن تكون فاعلة ومسؤولة، لا سيما أن البديل أن تضحي عبداً خانعاً يكلَّف بمهمات الفحشاء في الإقليم.
ليس من وسطية في الجيوستراتيجيا... قد تنفع في سبل التكتيك الخادمة لها، لكن ليس في تحديد معالمها وإعمال قوانينها.
لا تستطيع مصر أن تضرب موعداً آخر مع القدر فيما تجثم على صدرها وتكتم أنفاسها نخبة مضروبة من الرأس الى أخمص القدم... كلّ همّها أن تتخايل بأوليغارشيتها وخلاسية هويتها، وفي افتتانها بعبودية السيد الأكبر... ولسانها يلهج بذكره صبح مساء.
نخبة ارتضت لجيشها أن يقاتل في كاتانغا ـــــ شاباس (الكونغو) نصرة لتشومبي عام 1977 بعد أن قاتله بالسلاح تحت أعلام الثورة والحرية قبلها بسبعة عشر عاماً، وارتضت أن يقصف جيشها بلداً عربياً جاراً في العام نفسه وبتباه منقطع النظير.
نخبة تخلّقت من نطفها رأسمالية متوحشة وكومبرادورية برع نظام حسني مبارك في تصنيعها فما فتئت تبرع في توفير نسغ إمداده وحقن شريان حياته بمنشطات الكورتيزون.
مقصد القول أن العلة في النخبة، والمعلول هو الوطن ومن ثمّ الأمة...
ولا أمل في شفاء إلّا بإمساك شرائح مؤمنة بعروبة مصر بأعنّة المجتمع والدولة... عندها ستجد الأول لهوفاً للسير على طريقها لكنها ستحتاج إلى جهد الجبابرة لتطويع الثانية على ذاك المسير... والسبب بديهي وهو أنها ـــــ الدولة ـــــ تعجّ بجحافل من تلك النخبة البائسة تحتاج مصر إلى لفظها مرة وإلى الأبد لكي تنجو من براثن أعمالها وعمَه رؤاها وأغلال عبوديتها وتخبّط مفاهيمها وذل نفوسها.
ما أعجز عن تبيّنه هو ما يمور في تلافيف المراتب الوسطى والدنيا من الجيش... وهي التي لا ترفل في نعيم ولي النعم بالقدر الذي أفسد ذمم رؤسائهم، وتعيش في أتون غابة أطلق النظام العنان لوحوشها أن افترسوا ما تحبون، فأنتم الأعلون إن كنتم راغبين.... وتنفخ فوق أعناقهم مؤسّسة أمنية سمنت مثل العجول وسُلِّحت بما يوازي قدرات الجيش اذا استثنينا السلاح الثقيل.
هنا مربط الفرس... وبالأخص إن فاض النيل وانداحت سيوله على طول مداه تجرف ما في طريقها من طحالب وطفيليات من دون ناظم ولا دوزان، ترى أنشهد مشرق النور والعجائب؟
* كاتب عربي