ألبير فرحات *دعت ورقة العمل الافتتاحية التي أعلنتها قوى 14 آذار في مؤتمرها الأول «ربيع لبنان 2008»، إلى ثورة في المفاهيم الثقافية، مشيرة إلى أن ميدان الثقافة هو الذي يتجلى فيه أعمق ما في الانقسام القائم في لبنان. تقول الوثيقة: «فلبنان لم يكن يوماً في تاريخه الحديث على هذه الدرجة من الانقسام الحاد. وهذا الانقسام ليس من طبيعة طائفية (...)، كذلك ليس الانقسام سياسياً بالمعنى الضيق للكلمة، لأنه يتجاوز الخلاف على إدارة الدولة بين أكثرية ومعارضة، إلى الخلاف على طبيعة الدولة ودورها.
إن أعمق ما في الخلاف هو البعد الثقافي».هكذا يستوحي مفكرو 14 آذار فرضية صموئيل هانتنغتون الشهيرة: «إن فرضيتي هي أن الصراعات في هذا العالم الجديد لن يكون مصدرها الأساسي الأيدولوجيا والاقتصاد. إن الأسباب الراجحة للانقسامات في صفوف البشرية، والمصادر الرئيسية للصراعات سوف تكون ثقافية». هذه الفرضية كان قد سبقه إليها المستشرق المعروف برنارد لويس عندما قال «إن أزمة الشرق الأوسط (...) لا تنبعث عن خلاف بين دول، بل عن صدام حضارات». وكان برنارد لويس قد طرح هذه الفرضية منذ عام 1960، ومرت آنذاك بدون أن تثير الاهتمام. إلا أنه عاد بعد 25 عاماً وأطلقها على مدى واسع في مقال نشره تحت عنوان «جذور غضبة الإسلام»، فأثار الاهتمام لدى الدوائر الحاكمة الأميركية، لكونه يضمن خلفية أيديولوجية متماسكة ـ في نظرها ـ للسياسات التي تمارسها في المنطقة وعلى الصعيد العالمي، حيث قال «إن ما يجري ليس إلا صدام حضارات، إذ إن الفعل هذا (أي الإسلامي) يمكن ألا يكون حكيماً، ولكنه بالتأكيد رد تاريخي، يصدر عن خصم قديم لتراثنا اليهودي ـــ المسيحي، ولحاضرنا العلماني، و للانتشار العالمي لكليهما». ومن ثم كانت موضوعة «الإسلام الفاشي».
تقول لنا وثيقة 14 آذار إن الصراع يدور «بين ثقافة السلام والعيش معاً والوصل مع الآخر المختلف، وأخرى تقوم على ثقافة العنف والفصل». ثم يأتي القول بأن ثقافة السلام والوصل هذه تستدعي «تنقية الذاكرة، وطيّ صفحة الماضي (...) واعتبار جميع الضحايا شهداء الوطن، لئلا يبقى اللبنانيون ـ بمن فيهم الضحايا ـ فريقاً خائناً وفريقاً بطلاً».
ما هو المؤدى العملي لهذا الكلام؟ إنه تغييب جذور الصراع الحقيقية وترحيله عن مضامينه التاريخية والخاصة بطبيعة المؤسسات و«طبيعة الدولة»، التي تراها الوثيقة أحد أوجه الصراع، والنظام السياسي وعلاقاتهما مع الخارج، والصراع يشأن المسألة الاقتصادية ـ الاجتماعية، وأخيراً البعد الدولي. هذا الانقسام، الذي أنكرته الوثيقة في قسمها النظري، إلا أنها تعود إليه في قسمها الآخر، يجعل البلد من دون تاريخ ومن دون ذاكرة، وبالتالي من دون حاضر أو مستقبل، بحيث تصبح «تنقية الذاكرة» محواً لها، وبالتالي «طي صفحة الماضي» وعدم التفريق بين الخائن والبطل واعتبار الخيانة مجرد وجهة نظر وخيار ثقافي، بما يؤسس لـ«وجهات نظر» وخيارات مماثلة جديدة. ترى، هل وجد بلد في أي زمان ومكان لم يكن فيه خونة ووطنيون؟ ألا يعني عدم وجود أولئك عدم وجود هؤلاء؟
لقد انتهى التاريخ إذاً، ولم تعد هناك من انقسامات سوى ثقافية. وهنا يتبنى مفكّرو 14 وسياسيّوها آذار نظرية فرنسيس فوكوياما القائلة بـ«نهاية التاريخ» و«نهاية الإيديولوجيات». لقد استتبّ الأمر لدى فوكوياما للرأسمالية التي لا نظام اقتصادياً ـــ اجتماعياً بعدها. كذلك هو الأمر بالنسبة إلى لبنان، فقد انتهى تاريخه مع «ثورة الأرز» ولم تعد هناك من وطنية وخيانة، وتكتفي القوى التي حققت نصرها التاريخي في ثورتها، والتي ترى نفسها «أكثرية»، بأن تمد يدها إلى الآخر كي يلتحق في صفوفها.
ورغم أن الماضي انتهى بعدما دخلت البلاد مرحلة انتصار «ثورة الأرز»، فإنّ أيديولوجيّي 14 آذار يشعرون بأنهم لا يزالون بحاجة، من أجل تسويق أفكارهم «الجديدة»، إلى الاستعانة بكل تلك الأساطير المؤسسة للنظام الطائفي اللبناني: أولاً، أسطورة أن لبنان «تجربة فريدة في العيش المشترك»، في حين أن تاريخه المعاصر كان منذ أواسط القرن التاسع عشر تاريخ حروب طائفية يندى الجبين خجلاً من الموبقات التي ارتكبت خلالها. ثانياً، أسطورة «لا غالب ولا مغلوب»، في حين أن جميع المواجهات الطائفية عندنا انتهت بغالب ومغلوب. في المرة الأخيرة مع اتفاق الطائف، كانت المارونية السياسية هي المغلوبة والسنية السياسية هي الغالبة. أما الصراع المذهبي القائم حالياً، فعنوانه الرئيسي هو سعي الشيعيّة السياسيّة إلى الحلول محلّ شقيقتها السنّية، أو على الأقل إقرار «المثالثة» بين الطائفيّات الكبرى الثلاث. يا له من بعد ثقافي!
غير أن المرء ليتساءل، إذا ما عاد إلى الحديث عن «ثقافة السلام والعيش معاً، والوصل مع الآخر المختلف»، عن مدى ما يعبر هذا القول عن أفكار وممارسات قيادات 14 آذار ذات الماضي المعروف، والتي لا تزال تهدد اليوم، كلما خالف أحد رأيها، بـ«حرق الأخضر واليابس»، وباللجوء إلى حل الأزمة «على طريقتنا» (ما غيرها). وكيف يسوَّغ لمن وقع اتفاقية مع إسرائيل حوّلت لبنان إلى محمية للعدو وجنوبه إلى «منطقة أمنية خاصة» خارجة عن السيادة الوطنية، أن يتحدث عن تحويل لبنان إلى «مقاطعة سورية» و«رأس جسر لإيران على البحر المتوسط» (استعارةً لنظرية «البحار الدافئة») حتى لو كان ذلك حقيقياً؟
تستعيد الوثيقة في أكثر من مكان أسطورة «حرب الآخرين على أرضنا»، وتحويل لبنان إلى «ساحة» ومطامع الآخرين فيه. هذه أمور تجب مقاومتها. ولكن هل هناك دولة في الدنيا، منذ وجدت الدول، لا تسعى إلى تحقيق هدفين: بسط سيادتها على أرضها، وبسط نفوذها على جوارها، وعلى العالم إذا تسنى لها ذلك؟ وهل الصراعات التي عرفها لبنان والمنطقة منذ فجر التاريخ تعود إلى الثقافة أم إلى أن المنطقة كانت واقعة على «طريق الحرير»، ثم «طريق الأفاويه»، ثم «طريق الهند»، ثم لكونها أكبر منتج وصاحبة أكبر مخزون للنفط في العالم. وهل قيام إسرائيل في قلب منطقتنا كان فعلاً ثقافياً أم جيوسياسياً؟ هذا الكلام لا يهدف إلى القبول بالأمر الواقع، ولكن إلى توصيفه بصورة حقيقية بغاية التصدي له بطريقة ناجعة.
يمكن لنا أن نمضي طويلاً في تعليقنا على الوثيقة، إلا أننا سوف نختتم بملاحظتين: الأولى، تلك التي تحيط بها الشبهة، والتي تقول بعمومية: «الالتزام في المعركة الدائرة في عالمنا العربي للخروج من الاصطفافات السياسية التي فرضتها الحرب البادرة طوال أكثر من نصف قرن»، وهو قول إذا ترجم على حقيقته يعني الالتحاق بالمشروع الأميركي، والصلح مع إسرائيل بشروطها وشروط واشنطن. مستوى الذكاء في هذا الطرح دون الوسط، ذلك أن تصدي العرب للغزو الاستعماري قد بدأ قبل قيام الاتحاد السوفياتي وقبل اندلاع الحرب الباردة، وإلا فما معنى وعد بلفور واتفاقية سايكس ـ بيكو. أما خلال الحرب الباردة، فإن الرجعية العربية قد وقفت كما تقف «قوى الاعتدال» اليوم في الصف الأميركي. إذاً فالمطلوب أن ينضوي الآخرون.
الثانية، هي الالتحاق العلني والتبعية السافرة للمشروع الأميركي في المنطقة الذي تجلى إعلامياً في أن القائمة بالأعمال الأميركية كانت الوحيدة من بين أعضاء السلك الدبلوماسي العربي والدولي التي دعيت لحضور المؤتمر واستقبلت فيه بالتصفيق وقوفاً، وفي أن الرئيس بوش والمرشح الجمهوري ماكين قد بعثا برسالتين خاصتين إلى المؤتمرين! يبقى هناك تفصيل، هو إصرار أركان 14 آذار على الالتحاق بالصيغة التي يطرحها الحزب الجمهوري دون غيره، الأمر الواضح من خلال زيارات أقطابه إلى واشنطن، التي تستخدم من أجل توفير الدعم من قبل «اللوبي اللبناني» لمرشح هذا الحزب.
هل لدينا نصيحة نوجهها إلى جماعة 14 آذار؟ ربما لفت نظرهم إلى ضرورة مغادرة أوهامهم عن «الدعم» الأميركي لهم. فقد يصبح مصيرهم يوماً مصير ورقة ترميها واشنطن في سلة مهملات سياساتها المكيافيلية. لقد فعلتها مرة في لبنان، وفعلتها عام 1990 في نيكاراغوا عندما موّلت «السوموزيين» وسلحتهم للهجوم على وطنهم، ثم تخلت عنهم بين ليلة وضحاها بعد زوال «خطر الشيوعية»، فتركت البلاد وأهلها وأيضاً عملاءها يغوصون في البؤس والفقر والمرض، إلى أن جاء أجل أولئك العملاء، وغضّت الولايات المتحدة النظر عن مصيرهم.
وفي المطلق، ليس بعيداً عن الحقيقة القول بأن «الوثيقة» قد صدرت، في جزء منها عن «تشاوف أرستقراطي» لمن يرون أنفسهم أعلى مستوى من سائر الناس. كما أنها تعبّر في جزء آخر منها عن رفض الانتليجانسيا الغارقة في أحلامها لأن تغامر برغد عيشها، بحيث تقع أسيرة استكانتها الكئيبة لما هو مفروض عليها. أما ذلك التمجيد للثقافة، فلا يعدو كونه مناورة يلجأ إليها أصحابها لكي يؤكدوا أن سعيهم لا يتوخى إلا السيادة فكرياً وثقافياً، في حين أن هدفهم الحقيقي هو ضمان الهيمنة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً على المجتمع.
لقد تقدمت «الثورة المحافظة» في الولايات المتحدة إلى الأمام، فاتحة الطريق للرأسمالية الأكثر توحشاً، رافعة شعار «إعادة النظر في جميع القيم». فهل تحاول «ثورة الأرز» عن طريق «تنقية الذاكرة» و«طي صفحة الماضي» إعادة النظر في كل قيم الوطنية والحق والعدالة، لفتح الطريق أمام المستقبل الأسود الذي يعده التحالف الأميركي ـ السعودي (ومن لفّ لفه) لبلادنا وشعبنا؟
* محامٍ لبناني