نسيم ضاهر *بثَّت شبكة «آرتي» الألمانية / الفرنسية فيلماً وثائقياً عن الحرب العالمية الثانية، بعنوان دالّ: «الحرب»، تضمّن شهادات مُجنّدين وذكرياتهم، كعيّنات من أربع مدن أميركية متفاوتة الحجم على أطراف الولايات المتحدة الأميركية. توزّع العسكريون الناجون على الوحدات الرئيسية التي تألّفت منها القوات الأميركية المشاركة في القتال آنذاك، وهي الجيش البرّي والبحرية والطيران والمارينز، كل حسب موقع مسقط رأسه ودوافعه المتصلة بوجود قواعد معينة في محيطه. وشملت فصول الوثائقي مجريات الحرب بشقّيها، البرّي والبحري، المسندين بالطيران، على جبهتي القتال الرئيستين، أوروبا حيث المواجهة الضاربة مع الألمان برّاً بعيد إنزال السادس من حزيران عام 1944، والمحيط الهادئ، مسرح العمليات البحرية الأضخم ضد اليابان، المتنقّلة على مساحات شاسعة، من جزيرة إلى أرخبيل.
باسترجاع شريط الأحداث على الجبهات الملتهبة، وفي موازاتها شواهد الحياة اليومية الساكنة في البلد الأم، قصد الوثائقي بيان بصمات الحرب وشواغلها، في السلوكيات والنفوس، والجوامع بين العسكريين البعيدين والمدنيين المقيمين، أقارب ومعارف وأهل جوار، وملخّصها الخوف الصامت والحنين والانتظار في الوقت ذاته. نجح السرد القصصي في إظهار اختلاف صورة الحرب، بين شاهد حي، تبعاً لاشتراكه المباشر ومعايشته القريبة للمآسي والبشاعات، ومُتلقّ بعيد عن أرض المعركة، تصله أخبارها معقّمة زاهية بلون الانتصارات.
ومن دون اصطناع المعيارية الأخلاقية وتوسّل المواعظ، أو الطرق على وتر الوطنية والواجب، قادت انطباعات الرواة واعترافاتهم، إلى العُزوف عن تمجيد القوة والانبهار بالبطولة، فيما دلت أن كارهي الحرب، الرافضين لضرورتها وحتميتها، أكثرية ساحقة في صفوف من عرفوها وخاضوها، وأنّ أقوالهم وحكاياتهم الفردية أبلغ أثراً من مطوّلات المثاليّين.
ليس من وصف للحرب يوازي حقيقتها، ولا من حرب مقبلة بنسخة عن سابقة ولّت. ذلك درس ينبغي مثوله في الأذهان، لأن معاناة قدماء الحرب الكونية فاقت كل تصوّر، فما اعتقدوا يوماً أنهم على ذلك قادرون، ولا اقتدى أشجعهم ومقدامهم بالرؤوس الحامية ودعواتها.
أن يصبح القتل سبيل النجاة، على ملموس الحرب وقانونها، ضرب من الإشكالية يصعب الولع به والموافقة المسبقة عليه، فكيف باستلهام قاعدته، وتجريد الفرد من إنسانيته. لذا، جاء حديث الطيّارين خاصّة، بكلمات بسيطة نابعة من المرارة، اعتذارياً عن الفعلة في حينها من الناحية الأخلاقية، مليئاً بالأسى والأسف، يؤكّد استحالة النسيان وسكنى الأرق في النفس وخبايا الذاكرة مذّاك.
يُحكى عن الحرب في بلادنا وكأنها لعبة القدر، تنفتح على الفرج والخلاص من الشرّ. ويُستفاض في نتائجها الدرامية على طرف واحد، من خلال التصرف بالترسانة الصاروخية المتوافرة، والركون إلى فاعليتها وجهوزية طواقمها، فتأتي التوقعات الأليمة نازلة في العدوّ حصراً، والأهداف المدمّرة من تجمّعاته ومنشآته، والشلل في مفاصل اجتماعه واقتصاده. وبمعزل عن صحة التقديرات وصدقية السيناريوهات، قلّما يشار إلى الآثار الكارثية التي قد تلحق بالضفة الأخرى للمواجهة، الوجه الآخر في كل نزاع حربي، أي القياس المقارن وفق معايير مشابهة. ولا تستوي المعادلة أو تستقيم في المجال العسكري دون استبيان عدّة العدو، وامتلاكه صنوف الأسلحة المتنوعة بتفوّق ملحوظ، ومهارة تقنية، وهي جميعاً تأتي في المقام الأول من اعتبارات الحروب الحديثة وشروطها، ولا يحجبها ضعف معنويات مفترض ومؤازرة ربّانية خارقة تحسم عند اشتداد المعارك وتحمي في الملمّات. أمّا المغالطة، وربما خطأ الحسابات، ففي التنصّل سلفاً من تبعات الحرب وويلاتها، ورفع المسؤولية عن نشوبها، سواء بوصفها حرباً مفتوحة مع إسرائيل منذ البدء، مستمرة متواصلة لا مهرب منها ولا وقاية ممكنة، أم بالمداورة اللفظية والاحتماء بمظلة قديمة قروسطية عمادها العهد والفروسية، وقوامها البراءة من ذنب المبادءة أو إعلان الحرب (واستطراداً ترحيل مهمّة إزالة الكيان الغاصِب، رغم القناعة الفكرية والقول بواجب إنجازها). إنّ مسألة نشوب الحرب ليست وليدة ساعتها، إنّما يحدّد إشعال الفتيل ميقاتها، على خلفية الشحن والاستعداد المادّي واتباع سياسة شفير الهاوية. في المحصلة العامة، ترتسم النهايات محطات أخيرة في نطاق تعبوي ثقافي مغلق، تعمّق مجراه طرداً وارتفاع منسوبه، ليتدفّق شلاّلاً ويجرف ما يعترضه، ويحدّه من كوابح، ويدخل دائرة اللاعودة تحت سلطان الإيغال واللارجوع.
غالباً ما اشتعلت الحروب طلباً لملك لا رفعاً لمظالم، وإن اتّكأت ظاهراً على مطلب حق من هنا واستعادة أرض من هناك. وليس في الحرب العادِلة، ردّاً على انتهاك ودفاعاً عن الأرض والثوابت والقيم، ما يغبط أو يُطرب له ويتمنّى الوطني حدوثه إثباتاً لعدوانية طامع، بل إنّ الحكمة وحسن التدبير السياسي ونجاعة الرؤية والحرص على الشعب، وسواها من مقوّمات الذّود عن الأوطان، تستدعي أقصى الجهود، في القول والممارسة، لتلافي إنضاج الأزمات واستكشاف دروب الوقاية، وإبعاد شبح الحرب قدر المستطاع. وما في ذلك من ملامة واستقالة وطنية أو انهزامية، على ما يروّج له الشوفينيون وغلاة المغامرين وهواة النفخ في النار.
عيب السياسات المتهوّرة وآفتها، أنها تنفي كلّ إمكان حلّ أو مخرج مشرّف يصون الأساسيات، وتمعن في قراءة سوداوية، ترى بعين واحدة وتقود حكماً إلى العنف والصدام. وإذا كان الظالم مداناً مرفوضاً لا مفرّ له من عبء المسؤولية والخذلان، وهو على هذه الوصمات أبداً وفي كل الأحوال، فذلك لا يعني أنّ استشعار المظلوم بالأذية، يتيح له الخروج عن مألوف المبادئ والأعراف، وإطلاق يده ديّاناً قاطعاً مخوّلاً بما يرتئيه ويستنسبه في كل شأن، تصويباً للتاريخ على طريقة غسل العار بجريمة الشرف.
وفي مطلق الحال، من النافل القول إنّ التصحيح المطلوب، في صيغته البديلة الآيلة إلى دفع ضريبة الدم والنهوض بالمقاومة لدحر المعتدي وتحرير الأرض، يجد له مرجعاً وسنداً ومشروعية في الشرائع الوضعية والدولية والقوانين المجتمعية على وجه الكفاية والشفافية والمعايير الأخلاقية وحقوق الإنسان. فما من حاجة أو عضد ودافع جوهري له للتستّر، بل بأدلجة ضيّقة موقوفة على أصحابها، لاغية خيوط التواصل وجسوره، أو بمسوّغ نابع من الحقل الديني والمذهبي حصراً، إنفاذاً لتكليف مصدره غيبي وأصل معدنه من كيمياء الماورائيات.
يدعو حجم أكلاف الحروب إلى التبصّر والتدقيق في ميزان الأرباح والخسائر. المدخل إلى القرار الصائب، هو في أولوية تجنّب الحرب وإحقاق الحقّ بوسائل أخرى. أو أقلّه استنفاد المحاولات الآيلة إلى صنوف الحلول السلمية. القاعدة أن تنطلق المعالجة في فضاء السياسة وتستنجد بوسائلها ونوافذها بلا خجل. دون هذا السعي، حقل المراوغة ومباغتة الناس، يستوي الكلام فيه على المحرّمات والمطلقات، وينسدل لولبيّاً، يجول في العاطفي الشعري مزيَّن التضحيات، ويعود إلى نقطة الصفر، حاجباًَ كل مساءلة، يدفن الشك العاقل، ويغرس أسطورة الأمل بغلاف اليقين، على خدر بطيء وجهل مريح يستبدلان الأرض بالسماء، والفرد بالجماعة، والحياة البشرية بهيولة الكرامة وعظيم الشعارات.
تفيد دروس التاريخ، الحديث والمعاصر، كما الغابر، عن أثمان الحروب ومخلفاتها الجسدية والنفسية بسواء. ولربما يلعب الوثائقي دوراً أفعل تأثيراً وملامسة من المدوّن، في تسجيله الذكرى، النابض بالحياة.
لقد بات يتسنى للمرء، حيثما وجد في العالم الفسيح مشاهدة مجريات الحروب في لحظتها، وعلى مقدار من حقيقتها البشعة، بفعل الثورة السمعية / البصرية وفضلها، والقفزة الهائلة في النقل والاتصالات. قريباً منّا، جعلت الشاشات الناس شهوداً على نار جهنّم النازلة بصربيا ومن ثم العراق. لكن، مع فارق نصف قرن زمني، وتطوّر غير مسبوق لآلة الحرب والتقنيات، تعطينا عينات من الحرب العالمية الثانية، أوردها وثائقي «الحرب»، ما يشبع نهم الذكرى. ويعفي من مزيد أمثلة وشروحات. كانت حصيلة اختراق محور فاليز، بوابة العبور من منطقة النورماندي الفرنسية الوعرة حيث جرى إنزال الحلفاء إلى السهول المنبطحة، مُطلِقة حركة الدبّابات والمُجنزرات، حوالى نصف مليون جندي، معظمهم من القتلى والجرحى، إضافة للأسرى. ذلك الحصاد المُرّ لأيام معدودة أدمت شعوباً على ضفتي المحيط الأطلسي.
وعلى مسافة آلاف الأميال من المسرح الأوروبي، في قلب المحيط الهادئ، جرت أبرز منازلة بحرية بين الولايات المتحدة واليابان، هدفها جزر الماريان، بدءاً بجزيرة سايبان التي تبلغ مساحتها بضع عشرات الأميال المربعة لا غير. انتهت المعركة البحرية بضربة قاسية للأسطول الياباني، أفقدته ثلاث حاملات طائرات، إلى قطعات بحرية مساندة، وخُيّل للأميركيين أنّ الاستيلاء على سايبان أضحى عمليّة سهلة. دامت المعارك في سايبان ما يقارب الشهر ونيفاً، بعد ذاك، لم يستسلم ياباني واحد، بأمر من القيادة الحديدية، وانصياع للتربية العسكرية الفاشية القاضية بإعلاء الشرف على ما عداه، فسقط مجموع المدافعين البالغ ثلاثين ألفاً قتلى في الساحة، إلى معظم المدنيين، ومنهم آلاف آثروا الانتحار على الوقوع في فم الوحش المفترس كما صوّرت لهم الدعاية الامبرطورية. في المقابل، تكبّدت قوات النخبة الأميركية أفدح الخسائر، تجاوزت الخمسة عشر ألفاً بين قتيل وجريح، رغم السيطرة شبه الكاملة على الأجواء والبحار والإمداد.
هذه أمثلة عادية وصورة مُصغَّرة عن حقيقة الحرب، لم تدّعِ وصف الإبادة وتستصرخ الضمير العالمي لإيقاف المجازر. هي ناطقة بذاتها، قابلة للتكرار في غير مكان وزمان، لأن ألمانيا واليابان اليوم ضربتا صفحاً عن الماضي الأليم والمؤلم في آن، وتحرّرتا من الحرب وثِقل كفَّارة الحرب، فكانت لهما الذاكرة المتصالحة مع الذات والآخر، والبناء على أساس اللاعودة إلى سراب الفكر الشمولي والتنشئة البروسية المتشددة والخضوع لروح الجماعة.
* كاتب لبناني