طوني صغبيني وفيما شاركت القيادات العسكرية للاحتلال المسؤولين العراقيين استنكارهم ورفضهم للحادثة وأكدت فصل الجنديين من الجيش، قدّم الرئيس الأميركي جورج بوش اعتذاراً رسمياً للمالكي عن حادثة إطلاق النار على القرآن، في تصرّف غير مسبوق في ما يتعلق بالتجاوزات الأميركية في العراق.
في هذا الوقت، كان تطور آخر لم يكترث له أحد، يجري خلف الكواليس، هو تبرئة سابع جندي من أصل ثمانية متهمين بمجزرة مدينة الحديثة.
ولمن لا يعرف مجزرة الحديثة، فهي من أسوأ جرائم الحرب المرتبطة بالجيش الأميركي في العراق منذ غزوه لهذا البلد.
في التاسع عشر من تشرين الثاني عام 2005، قامت فرقة من مشاة البحرية الأميركية «مارينز»، باقتحام منازل المدنيين في القرية بعدما قُتل أحد الجنود في انفجار قنبلة، ولفترة ثلاث ساعات قام أفراد المجموعة بتصفية كل عراقي صادفوه انتقاماً لزميلهم، ومنهم نساء وأطفال، وأوقفوا سيارة أجرة داخلة إلى الحيّ وقتلوا ركابها الخمسة، حتى بلغت الحصيلة النهائية 24 قتيلاً مدنياً وعشرات الجرحى.
لم يعلن الجيش عن المجزرة، لم يعترف بها أحد، لم يعتذر أحد لأي عراقي.
ولو لم تكشف مجلة «تايم» الأميركية عن الحادثة، لربما بقيت المجزرة حتى اليوم طيّ الكتمان.
انطلقت المحاكمات، ورغم إثبات التحقيقات للجريمة، أسقطت تهم القتل العمد عن المتهمين العسكريين الثمانية، واستبدلت بتهم مخففة كالقتل غير العمد والتهوّر وتضليل التحقيقات، برّئ منها أيضاً سبعة حتى الآن، ويبقى واحد فقط بانتظار المحاكمة بتهمة «عدم تنفيذ الأوامر».
الأسباب القانونية للبراءة هي نقص الأدلة والشهود، حيث لم يجرؤ أي عراقي على التقدم إلى المحكمة كشاهد، ولم يسمع أحد أصوات الحريصين على سيادة بلاد الرافدين ترتفع لتشجيع الضحايا على المثول أمام المحكمة وتقديم ضمانات لحمايتهم.
في هذه القضية، تحالف الصمت العراقي الرسمي مع الصمت الأميركي، والتقت مصالح الاثنين على «لفلفة القضية».
المقارنة بين الغضب العراقي العارم المقرون باعتذار أميركي ملهوف، حول حادثة «المسّ بالمقدّسات» التي لم تعرّض أي عراقي لأذية جسدية مباشرة، والصمت واللامبالاة العراقية الأميركية في قضية مقتل عشرات المدنيين، تظهر بأنّ هناك خطوطاً حمراً جديدة تتكوّن، أو يُعمل على تكوينها، في الوعي الشعبي والرسمي، ليس في بلاد الرافدين فقط، بل في كل العالم الإسلامي.
هي عودة استشراقية، نابعة من قلب فلسفة «الحرب العالمية على الإرهاب»، تقضي بأن يكون الشرق «شرقاً» و«مسلماً»، موغلاً في تمسّكه بالطقوس الشكلية والغيبيات لدرجة يهمل فيها، أو يحتقر كل ما يمت للحياة الدنيوية بصلة، فلا يكترث لبؤس حياته اليومية ولا يفعل شيئاً بشأن ذلك، لكن يستفزه رسم كاريكاتوري.
ماذا يربح الأميركيون من ذلك؟ الإجابة يمكن استخلاصها من النتائج: عندما تعلو قيمة الشكل، وتنخفض قيمة الحياة الإنسانية، يمكن بسهولة أن تتحوّل الفلوجة من المدينة المتمردة التي حرقت عناصر «بلاك ووتر» وعلّقتهم على جسرها انتقاماً لمجازرهم بحق العراقيين وقاتلت جيش الاحتلال في أكبر معركتين خاضهما منذ معركة مدينة «هو» في فيتنام بحسب شهادات قياداته، إلى المدينة التي لا تطلق النار على الجنود الأميركيين المطمئنين في ساحاتها ولا تنفجر غضباً إلا عند توزيع قطع معدنية «مسيحية».
في معادلة الوعي الجديد، يمكن بسهولة أن يصبح إطلاق الجنود الأميركيين النار على القرآن، أمر أكثر إثارة للاستنكار من إطلاق النار على المدنيين العزّل.
ومع قراءة الحالة خارج العراق، تكتسب الصورة وضوحاً أكبر؛ فالعالم الإسلامي بقي غافلاً فيما جرى غزو العراق والتناوب بين الاحتلال وفرق الموت الطائفية على ارتكاب المجازر فيه، ولم يستيقظ هذا العالم إلا على رسم كاريكاتوري، ليعود ويغفو ليستيقظ من جديد عند إعادة نشر الرسوم.
في هذه الحالة، فشلت كل دعوات المقاطعة لإسرائيل والولايات المتحدة اللتين ارتكبتا المجازر بحق شعوب العالم العربي طوال ستين عاماً، فيما نجح الرسم «المسيء» في إطلاق موجة مقاطعة شبه شاملة لدولة ذنبها أن صحفها نشرت «الإساءة» على صفحات جرائدها.
للأمثلة اليومية هذه، دلالات أكثر خطورة على المدى البعيد؛ ففيما لا تزال الأنظمة الحاكمة تعتمد على الدين لتدعيم شرعيتها، تتنافس القوى المعارضة للحكم في حملات سياسية تركّز على معارضة دخول المرأة إلى البرلمان وإقفال محال الموسيقى أكثر من تركيزها على إخراج الاحتلال.
وهو ما يظهر عند القوى الإسلامية في دول الخليج العربي وخاصة الكويت، ويظهر مؤخراً في برامج القوى العراقية الراغبة الفوز بأصوات الناخبين في انتخابات المحافظات المقبلة.
وإذ يضع هذا الواقع، المواطن في العالم العربي أمام حدّي الاحتلال المتحالف مع النظام الحاكم، والبديل المعارض الأكثر بطشاً من الحكم، تؤمّن هذه النسخة من «الشرق المتخلّف»، الناهل من قيم الديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان، حملة تسويق دولية لا منافس لها لشعارات السياسة الخارجية الأميركية.
هكذا تصبح قضية «المسّ بالمقدسات» مسألة خطوط حمر جديدة، لا تتضمن حتى الآن مسائل الاحتلال، والمجازر، والفقر، واستبداد الأنظمة وفساد الحكام.
وإذا استطاع هذا المفهوم أن يهيمن على البوصلة الشعبية والسياسية، فسيكون ذلك من دون شك أعظم إنجاز للاحتلال؛ حيث ما دام الأخير لا يمسّ بالرموز الدينية، سيتمكّن من تمرير مشاريعه بأقل قدر ممكن من الخسائر.
الأمر يشبه قيام نابوليون بارتداء العباءة الإسلامية في القاهرة عند احتلاله مصر نهاية القرن الثامن عشر؛ إنها الرسالة نفسها؛ «إنني أحتلّ بلادكم وأسبب بؤسكم، لكنني احترم دينكم فلا داعي إلى أن تحاربوني».

* من أسرة الأخبار