عاشت الأحزاب الشيوعية العالمية الموالية لموسكو على مقولة كانت تتردد دائماً في برامجها: "سمة العصر هي الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية". في عام 1989 حسم صراع الحرب الباردة لصالح واشنطن ثم تفكك الاتحاد السوفياتي بعد عامين. لم يكن انتصاراً سياسياً محضاً بل كان مرفوقاً برواج أفكار المنتصرين في تلك المعركة التي جعلت واشنطن قطباً أوحد للعالم لثاني مرة بعد روما المنتصرة في معركة أكتيوم على المصريين في عام 31 قبل الميلاد.
كان اليمين الجديد الأميركي ممثلاً بالرئيس رونالد ريغان (1981 - 1989) مطبقاً لنظرية الاقتصادي ميلتون فريدمان، من اتجاه "الليبرالية الجديدة" التي أدارت الظهر لاتجاه جون ماينارد كينز في الاقتصاد نحو دولة الرعاية ولدورها التدخلي في العملية الاقتصادية. وهو ما انتهجه الرئيس فرانكلين روزفلت في الثلاثينيات لتجاوز آثار الأزمة الاقتصادية العالمية البادئة في نيويورك (1929-1932)، وقد قدم فريدمان اتجاهاً اقتصادياً جديداً يقطع مع مسار في علم الاقتصاد بدأ مع آدم سميث في القرن الثامن عشر مروراً بريكاردو وماركس وصولاً إلى كينز، يرى في السلعة المعيار الأساس للعملية الاقتصادية، عندما وضع "النقد" في مكان "السلعة". كان رفع ريغان لمعدل الفائدة بناء على نصيحة فريدمان سبباً في هجرة دولارية عالمية إلى البنوك في الولايات المتحدة جعلت العملة الأميركية تتجاوز وضعها المعتل في السبعينيات. قادت الفورة الاقتصادية الريغانية، مرفوقة بالانتصار على موسكو، إلى جعل "البورصة" في مكانة أهم من "المصنع" وإلى جعل القيم الاقتصادية ذات طابع دفتري في البورصة وليست قيماً سلعية فعلية ملموسة. انفجرت الفقاعة النقدية في نيويورك منذ أيلول 2008 معلنة من هناك بدء الأزمة المالية - الاقتصادية العالمية. ما فعله باراك أوباما منذ دخوله البيت الأبيض في كانون ثاني 2009 كانت معالجات كينزية للاقتصاد الأميركي تتعاكس مع "الليبرالية الجديدة".
هل يمكن استثمار هذا الفشل لليمين المنتصر عام 1989 عند اليسار الماركسي؟

في الستينيات كان هناك أستاذ جامعي آخر يدرس في جامعة شيكاغو اسمه ليو شتراوس (ت1973)، بالتزامل مع فريدمان. أسس شتراوس اتجاهاً فلسفياً هو "المحافظون الجدد" يقطع مع كل تراث فلسفة عصر الأنوار الفرنسية في القرن الثامن عشر وصولاً للثورة الفرنسية عام 1789، هذا التراث الذي توبع في ألمانيا عبر هيغل وماركس وفي فرنسا عبر وضعية أوغست كونت وفي انكلترا عبر مؤسس الليبرالية كاتجاه فلسفي، أي جون ستيوارت ميل في كتابه "في الحرية" عام 1859. كان رأي شتراوس أن الماركسية ومنتوجها الشيوعية السوفياتية، هي استمرار لاتجاه غربي بدأ بعصر الأنوار وهي خلاصة أمينة له، وأن الليبرالية، في السياسة والاقتصاد، يجب تأسيسها على اتجاه فلسفي يعود إلى الاتجاه المحافظ الذي بدأ في انكلترا بمجابهة الثورة الفرنسية عبر كتاب إدموند بيرك "تأملات في الثورة الفرنسية" عام 1790. وافق شتراوس على ما قدمه الاقتصادي فريدمان ولكنه لم يوافق على ما قدمه فلسفياً مؤسس الليبرالية جون ستيوارت ميل حيث رأى شتراوس ضرورة ربط الليبرالية بشقيها السياسي والاقتصادي باتجاه فلسفي يميني جديد يقطع مع تراث فلسفي غربي. ورأى أستاذ جامعة شيكاغو أن وريثه الحقيقي هو كتاب "البيان الشيوعي" وليس كتاب جون ستيوارت ميل الصادر بعده بأحد عشر عاماً. كان بعض تلاميذ شتراوس مثل بول فولفوفيتز، في إدارة ريغان، ولكن اتجاه "المحافظون الجدد" لم يتبلور فلسفياً وسياسياً إلا في التسعينيات، ثم رأينا أفراد هذا الاتجاه يسيطرون على المفاصل الكبرى في إدارة جورج بوش الابن (2001-2009) برعاية نائب الرئيس ديك تشيني، مثل: فولفوفيتز نائباً لوزير الدفاع، دوغلاس فايث مساعد وزير الدفاع لشؤون السياسات، وريتشارد بيرل رئيس مجلس سياسات الدفاع في البنتاغون. كان هؤلاء الثلاثة ماركسيون سابقون من الاتجاه التروتسكي قبل أن يقعوا تحت تأثير شتراوس، وقد حملوا معهم لموقعهم اليميني الجديد نزعة تغييرية تروتسكية من "تصدير الثورات والتغييرات" وما كان ليون تروتسكي يضعه في موضع "الاشتراكية" وضعوا بدلاً منه "الديموقراطية ونزع الديكتاتوريات". ولكن ما كان من مهمة موسكو عند مؤسس الجيش الأحمر في "الثورة الدائمة" التي تحمل للخارج من بؤرة أوكتوبر1917 رآها هؤلاء مهمة تغييرية لـ "روما الجديدة" في "إعادة هندسة العالم" عبر "نشر القيم الأميركية" في "الديموقراطية" و"اقتصاد السوق". كان هؤلاء الثلاثة هم مهندسو غزو العراق عام 2003 من أجل "إعادة صياغة منطقة الشرق الأوسط"، وعبره العالم في مرحلة "مابعد موسكو".
كانت "بغداد ما بعد 9 نيسان 2003" و"نيويورك النصف الثاني من أيلول 2008"، فشلاً لأفكار ليو شتراوس وميلتون فريدمان وارتطامها بحائط الوقائع. بالترافق مع أفكارهما، بانتصارها وفشلها، انتعشت ثم ماتت أفكار فرعية كانت أغصاناً في هاتين الشجرتين، مثل مقولة فرانسيس فوكوياما عن "نهاية التاريخ" التي قدمت عبر مقال في مجلة "ناشنال انترست" في صيف 1989، ثم تحولت لكتاب بالعنوان نفسه عام 1992، حاول فيها استخدام قراءة ليبرالية لهيغل قدمها مهاجر روسي في باريس عام 1947 هو ألكسندر كوجيف في كتابه: "مدخل إلى قراءة هيجل"، كما كانت هناك قراءة ماركسية لهيغل وقراءة أيضاً للفيلسوف البرليني عند الايطالي بنديتو كروتشه كانت أساساً فلسفياً للحزب الفاشي بزعامة موسوليني.
عند عرب ما بعد عام 1989، كان هناك رقص كثير على طبلة المحافظين الجدد ونزعتهم "الرسالية" عبر غزو العراق حاملين "نزع الديكتاتورية" و"الديموقراطية" و"اقتصاد السوق". أكثر الراقصين كانوا من الماركسيين السابقين الذين لبسوا رداء "الليبرالية الجديدة"، وقد ردد الكثير من هؤلاء، من دون أن يقرأوا شتراوس وفريدمان وبعضهم لم يسمع بهما، ما كانت تطرحه الإدارة الأميركية من مقولات تسويغية فكرية لغزو العراق والنزعة التغييرية الأميركية، وبعض العرب لاقاها بأفكار "مواءمة" حتى قبل الغزو مثل جاد الكريم الجباعي في مقاله: "تهافت الدفاع عن العراق" (موقع "أخبار الشرق"، يوم 24 كانون أول 2002) بقوله: "الوجه الآخر لإدانة العدوان كان منذ 1991 ولا يزال تبرير الاستبداد وتأييده ومناصرته وليذهب الشعب العراقي وسائر الشعوب العربية الرازحة تحت نير الاستبداد إلى الجحيم". ورياض الترك عندما أطلق مقولته بعد خمسة أشهر ونصف الشهر من احتلال العراق حول "الصفر الاستعماري" في مقابلة مع جريدة "النهار" يوم 28 أيلول 2003.
قبل إدارة بوش الإبن لم تكن هناك طبلة خارجية للرقص على ايقاعها، بل فقط رقصة الخيبة والصدمة من هزيمة وسقوط السوفيات عند شيوعيين وماركسيين عرب كثيرين، ليُنتج على وقع ذلك مقولات لم يتجرأ أحد في الغربين الأوروبي والأميركي على طرحها خوفاً من أن يقابل بالسخرية والاستهزاء في عالم السياسة والأفكار السياسية هناك، مثل مقولة "نهاية الإيديولوجيات" و"الأحزاب تؤسس على برامج ومهمات وليس على مناهج فكرية – سياسية يتم عبر تفعيلها بالمكان والزمان المحددين انتاج البرامج والمهمات السياسية". لم ينتبه هؤلاء بعد أن طرحوا تلك الأفكار بالتسعينيات إلى أن اتجاه "المحافظون الجدد" إيديولوجي جداً ودوغمائي كثيراً من حيث علاقة الأفكار الفلسفية بالعملية السياسية، وإلى أنه لا يوجد حزب سياسي في برلين ولندن وباريس وواشنطن من دون منهج فكري – سياسي يتم من خلاله توليد برنامجه ومهامه السياسية. حتى باراك أوباما وهو ينهج سياسات مخالفة لـ "المحافظون الجدد" يعود إلى كينز في الاقتصاد وإلى الليبرالية التقليدية لجون ستيوارت ميل.
السؤال الآن: هل يمكن استثمار هذا الفشل الفكري – السياسي لليمين المنتصر عام 1989 عند اليسار الماركسي عالمياً وعربياً؟
* كاتب سوري