عصام نعمان *أيّ طريق ستسلكها الولايات المتحدة، وبالتالي إسرائيل، في صراعها مع إيران وسائر أهل الممانعة والمقاومة في العالم العربي والإسلامي؟
إنّه سؤال الساعة في أميركا وأوروبا حيث يسعى قادة وسياسيون وعسكريون ومخططون دبلوماسيون واقتصاديون ومحلّلون ومراقبون، جاهدين لتقديم إجابات وافية وفاعلة عنه.
حتّى الأمس القريب، كان ثمة خياران يستأثران بالبحث والتحليل وحتى ببعض مظاهر التنفيذ: إنهما الخياران العسكري والسياسي. دعاة الخيار العسكري يقولون إن إيران، حتى من دون سلاح نووي، أضحت قوة إقليمية مركزية تهدّد مصالح الولايات المتحدة الاقتصادية في المنطقة، ولا سيما النفطية منها، وأمن إسرائيل وسائر حلفاء الغرب الأطلسي.
ويدعو هؤلاء إلى بذل جهد منهجي لتعطيل اقتصاد إيران وتأجيج نقمة الإثنيّات والأقليات العربية والبالوشية والكردية ضد الحكومة المركزية، وممارسة عمليات سرية واسعة النطاق غايتها إعداد ساحة المعركة لضربة عسكرية تدمّر قاعدتها الصناعية وما يتيسر من منشآتها النووية، فتعود القهقرى 10 سنوات أو 15 سنة إلى الوراء.
دُعاة الخيار السياسي يقولون إن الخيار العسكري متعذّر التنفيذ لعدم توافر القدرات اللازمة له في هذه الآونة من جهة، ولكونه عالي التكلفة على مستويات عدّة من جهة أخرى. ذلك كلّه يدفع باتجاه اللجوء إلى وسائل سياسية واقتصادية من أجل التوصّل إلى تسويات مع إيران وسواها من الدول «المارقة»، تقوم على أساس توازن المصالح وليس فقط توازن القوى، وتعاون الدول الثماني الكبرى، من شأنه التوصّل إلى نتائج مجزية في هذا المجال.
في وجه هذين الخيارين تعتمد إيران، كمعظم أهل الممانعة والمقاومة من دول وتنظيمات، موقف المواجهة للخيار العسكري وموقف التحفّظ من الخيار السياسي. هذان الموقفان الفاعلان أدّيا، في تقدير إدارة جورج بوش وحكومة إيهود أولمرت، إلى تعقيد الأزمة وتأجيج مظاهر الحرب الباردة القائمة بين الغرب الأطلسي عموماً وبعض الدول الإسلامية وأهل الممانعة والمقاومة خصوصاً.
إذ تقترب ساعة القرار مع مرور الزمن الباقي من ولاية بوش المنتهية في 20 كانون الثاني 2009، يسارع فريق من القادة السياسيين والمخطّطين الاستراتيجيّين إلى تنفيذ سلسلة تدابير يأملون أن تتكامل في خيار ثالث اقتصادي، قوامه حرب مالية متدرجة ضدّ الدول «المارقة» وأهل الممانعة والمقاومة.
في هذا الإطار، باشرت الولايات المتحدة سلسلة تدابير للتضييق على إيران بحمل مصارف ومؤسسات مالية كبرى وعالمية على عدم التعامل مع نظيراتها في إيران والعالم العربي والإسلامي. وكانت قد سبقت هذه التدابير حملة منظّمة على التنظيمات التي ترى الولايات المتحدة أنّها «إرهابية»، إذ جرى تجميد حساباتها في المصارف ومنع بعض قادتها من الحصول على تأشيرات دخول والبعض الآخر من السفر. كما جرت ملاحقة ومطاردة بعض قادتها وكوادرها وتصفية بعضها الآخر.
حذت إسرائيل حذو إدارة بوش فقامت أخيراً، بموازاة تشديد حصارها على قطاع غزة، بشن حربٍ مالية على حركة «حماس» في العالم بغية تجفيف مداخيلها وإحباط سيطرتها على قطاع غزّة. واستهدفت الجولة الجديدة من الحرب المالية أربع جمعيات تابعة للحركة الإسلامية، إضافةً إلى مديرية الأوقاف التابعة للسلطة الفلسطينية.
كما جرت مصادرة أجهزة كومبيوتر ووثائق وأموال وأثاث، وأغلقت جمعية «التضامن» وكل فروعها في نابلس بدعوى أنها تمثّل البنية التحية لحماس في المدينة. فوق ذلك كله، وقّع وزير الدفاع ايهود باراك أمراً أعلن بموجبه 36 منظمة دولية خيرية، تُعرف باسم «اتحاد الصالحين»، منظمات محظورة بذريعة أنها تموّل أنشطة «حماس»، وأنها تستقي أموالها من مصادر وأوساط في أوروبا والخليج.
لا تكتفي إسرائيل بهذه التدابير بل توعز ايضاً الى نحو 60 إسرائيلياً في الولايات المتحدة برفع دعاوى قضائية ضد خمسة مصارف لبنانية بذريعة أنها فتحت، عن علم ومعرفة، حسابات مصرفية لتمويل أنشطة حزب الله. والغاية المنشودة من وراء هذه الدعاوى «اجتثاث الإرهاب من خلال لجم إمرار الأموال لمنظمات إرهابية بواسطة مؤسسات مصرفية أميركية ودولية»، كما جاء في تصريح أحد محامي المدعّين. الخيار الثالث لا يقوم على الحرب المالية فقط بل يتقّوى أيضاً بربطه بالعمليات السرية التي تقوم بها أجهزة الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية في الدول «المارقة» وضدّ منظمات المقاومة في جميع الساحات الناشطة. بذلك يتكامل كخيار فاعل ينطوي على عدة عمليات وأنشطة تؤلّف بمجموعها نظاماً للحصار والتضييق والضغط، يأمل مشغّلوه أن يُضعف القوى المستهدفة به ويقلّل من مناعتها وحصانتها ويحملها في نهاية المطاف على الرضوخ وبالتالي القبول بتسويات تراعي مصالح دول الغرب الأطلسي وإسرائيل.
الواقع أنّ الحرب المالية لا تمثّل تحدياً لإيران وسوريا وتنظيمات المقاومة في العالم العربي فحسب بل للدول العربية جميعاً، ولا سيما الغنية منها. ذلك أن تدابير الزجر والتضييق والمنع والحصار والمصادرة إنما تتطلّب بالضرورة دولاً ومؤسسات ومصارف عربية لتنفيذها. فالحصار الذي تضربه إسرائيل على قطاع غزة إنما يتمّ بعلم الحكومة المصرية ومشاركتها وخصوصاً من خلال معبر رفح. وتدابير الحرب المالية التي تشنّها إسرائيل على «حماس» والشعب في الضفة الغربية لا يمكن أن تنجح إلا بتعاون السلطات الأردنية.
أما على الصعيد المصرفي، فإن الحرب المالية تتطلّب تعاون المصارف العربية وفروعها في الخارج، وهو أمر لا يتأمّن إلّا بعلم الحكومات العربية وموافقتها.
إلى ذلك، فإن الأذى الذي يلحق بالعرب جرّاء الحرب المالية ليس أشدّ وأوسع من الأذى الذي يُلحقه العرب بأنفسهم، ولا سيما دولهم الغنية من منتجي النفط والغاز. فدول مجلس التعاون الخليجي تنتج نحو 16 مليون برميل يومياً، تمثّل نحو 20 في المئة من الاستهلاك العالمي، وعائداتها النفطية المرتقبة لسنتي 2008 و2009 لن تقّل عن 1,3 ترليون دولار. لكن هذه الثروة الخيالية لم تتحول بعدُ نفوذاً سياسياً ما حمل الكاتب البريطاني المتخصص في شؤون الشرق الأوسط باتريك سيل على الإشارة إلى «مفارقة تدعو إلى الدهشة في الواقع وهي تلك المتمثلة في أنّ الوزن السياسي للعرب ـــــ رغم ثروتهم الطائلة والآخذة في التزايد ـــــ ما زال ضئيلاً بل يكاد لا يستحق الذكر».
وكيف لهذه الثروة الهائلة أن تتحوّل نفوذاً سياسياً ومعظم عائدات النفط يجري تدويرها لتستقر في مصارف أميركا حيث يجري الاستفادة من إيداعها في تمويل ميزانيات التدخل العسكري والاحتلال والنهب ضد دول عربية وإسلامية عدة، كما يجري استعمالها في مشروعات «تنموية» موجّهة لخدمة أغراض الهيمنة الأميركية والصهيونية.
إن ثروة العرب النفطية والمالية هي من الضخامة والأهمية الاستراتيجية بحيث لا يجوز ترك أمر إدارتها في أيدي نظم سياسية فاسدة وضعيفة وعاجزة تالياً عن حمايتها وتنميتها وحسن استعمالها. فالنفط مصدر ناضب من مصادر الثروة الأمر الذي يتطلب وضع استراتيجية متكاملة تهدف إلى تحقيق معدلات عربية، وليس محلية فقط، من التنمية المستدامة من جهة وتوجيه ما لا يقل عن 33 في المئة من العائدات النفطية نحو قنوات استثمار متنوعة داخل الوطن العربي وخارجه لضمان إيجاد موارد مالية تمكّن من تقليص الاعتماد على النفط كمصدر رئيس للطاقة والدخل الوطني، والإسهام في معالجة آثار النقص الغذائي والتلوث البيئي العالميين.
لا سبيل إلى النهوض بمتطلبات هذه الاستراتيجية القومية والإنسانية في ظلّ العقليات الحاكمة في العالم العربي والإسلامي. ومع ذلك يمكن قوى الممانعة والمقاومة أن تمنح النظم السياسية الفاسدة القائمة فرصة أخيرة بأن تفتدي نفسها بدعم مالي سخي لتنظيمات المقاومة المقاتلة ضد النظام الصهيوني في فلسطين واحتلاله مزارع شبعا في لبنان وضد الاحتلال الأميركي في العراق وتدخّل الغرب الأطلسي في السودان مقابل امتناع هذه التنظيمات داخل أقطار النظم السياسية الفاسدة وخارجها عن محاربتها وتركها لمصيرها مع شعبها.
وإذا رفضت النظم الفاسدة هذا العرض واستمرّت في التواطؤ والتعاون مع الولايات المتحدة وإسرائيل في محاربة قوى الممانعة والمقاومة، يكون من حق هذه القوى اعتبارها جزءاً من جبهة القوى المعادية والمبادرة تالياً إلى مؤازرة شعبها في نضاله لاستخلاص البلاد ومواردها وثرواتها من قبضة طبقاتها الحاكمة ذات التربية والمسالك الكوزموبوليتية والأغراض الاستغلالية الفاسدة.

* وزير سابق