بين الـ«من نحن؟» وبين «من كنّا؟»، مسافة غير قصيرة عن التفكير الأنواري حصراً، فسؤال الهوية هو سؤال أنواري ارتقى إلى الحداثة بعد أن ساهم في إرساء مفاهيم عصر الأنوار ومن ثم تطورها إلى يومنا هذا.بين هذين السؤالين هناك سؤال ثالث موجود بالضرورة هو: هل كنّا؟ وهو سؤال من السهولة الإجابة عليه أثناء معمعة البحث عن الهوية. الموضوع الأكثر جذباً للطرح وللتفكير والكتابة في منتجاتنا الثقافية العربية، فالكثير يتساءلون (ولا يسألون) عن الهوية ويقومون بمباحث ضخمة في التراث علّهم يستطيعون أن يصنعوا تراتبية سلاسلية سلالية تفيد بمعنى الهوية للانطلاق منه كبؤرة ابتدائية لوجودنا، حيث يصلون إلى واقع افتراضي سبق الإنترنت بزمنٍ طويل.

يقول هذا الواقع الافتراضي إننا كنا، وها نحن، دون دليل واضح على هذه الكينونة التي علينا الاشتقاق منها من نحن وما نحن، لنوازي بطريقة «ما» الهوية كمفهوم ابتكره عصر الأنوار، ويحتاج إلى تفكير أنواري للوصول إلى رؤية عن الهوية واضحة وقابلة للتعريف. ولكن وكالعادة استلف المهتمّون أن سؤال الهوية وجوابه متضمنان في التراث تقريباً، ليتحول السؤال والجواب إلى منتجَين ثقافيَين إعلانيَين من جهة، وإلى إيديولوجيا مقدسة مستمرة منذ ما اصطلح عليه بداية وجودنا التاريخي من جهة ثانية، أي في القرن السابع الميلادي حصراً.
والويل والثبور لمن يخالف هذه الحقيقة، على الرغم من كونها تقريبية كما أنها تقسم التاريخ «تاريخنا» إلى جزءين، أحدهما فقط معترف به.
كيف يستطيع دارسو
الهوية الردّ على الواقع الممارس في العالم «العربي»؟
وعلى الرغم من أن هذه المعمعة جميعها لا تتصل بسؤال الهوية الأنواري، إلا بروابط ضعيفة وهامشية أو تقريبية وحتى احتيالية، إلا أن السؤال والإجابة عليه وفي جلّ الأحيان (ليس عند القلة من الأنواريين كي لا نقع في التعميم) لمّا يزالا يعانيان من تبسيطية لغوية مخلّة، كما يعانيان من احتكام إلى تفكير ما قبل أنواري بما لا ينسجم مع السؤال بصفته الحداثية، بحيث تبدو الهوية عند هؤلاء، وفي أرقى حالاتها الإيديولوجية، مسألة تعريف الذات على أنها عكس الآخر أو ضده، وليست هي غير الآخر على أقلّ تقدير بل ضدّه وبالمعنى اللغوي الشفاهي، ليصبح الآخر عدواً وليس منافساً أو طرفاً في صراعٍ أو جدل. كما أنها تبدو عند هؤلاء وفي أقصى فعاليتها، تؤدي فقط إلى الافتخار بالمكانة الرفيعة السباقة، متضمنة المكانة الحقوقية التي تتشظى، إلى عداوة مستحكمة مع خارجها. أما داخلياً فتتبعثر إلى تراتب حقوقي مهووس بالأصالة، يسمى تنظيرياً تداخل الهويات.
القبول بهذا «الافتخار» وتبنيه كصورة للهوية، يقابله القبول بتهمة وهن نفسية الأمة كلما استدعى الأمر، كما يستدعي تقسيم الناس إلى وطنيين ما يعني أن هناك غير وطنيين من أبناء الهوية «الواحدة» في تلاعب واضح بالسؤال وأجوبته، وقس على ذلك اتكاء على تعريف الهوية كما رآه هؤلاء، ولكن «هل فعلاً
كنا؟».
لا أدري إذا كان سؤال كهذا يستدعي التمحيص في جلّ المصطلحات الحداثوتراثية التي نتبناها كحقائق لا يأتيها الباطل، والتي تقودنا بالإسالة إلى تعريف مبعثر للهوية، أو إلى جواب سؤال «من نحن» الذي لما يزل تحت التجريب الممل، لاعنين في ذات الوقت ديكارت والساعة التي أوجد فيها ذاك الشك القتال الذي يأخذنا إلى مطارح لم تردها الإبل من قبل.
سؤال الهوية هو سؤال أنواري/ حداثي بامتياز، يقصد من نحن الآن وفي هذه اللحظة، بما يقتضي وجود مجتمع واضح بمعناه التقني المعاصر أولاً، وليس بأي معنى روابطي ناتج من التشابهات الفلكلورية أو اللغوية وحتى التاريخانية. أن نسأل عن الهوية اليوم معناه أن يجلس هؤلاء التراثويون (مهما ادّعوا حداثة مفترضة) جانباً، وليتركوا الأمر لعلماء الاجتماع وباحثي الاقتصاد وللمنتجين المبدعين، كي يقرروا، فهم الأدرى بشؤون دنياهم. فهذا السؤال لم يعد ترفاً فكرياً، ولا هو تقليد يظهر الخصوصية الفريدة المتعالية لمجموعة من البشر، هو سؤال مؤسس، يتأسس على إيجاد المجتمع المتصالح على مصالحه، وليس على أي شيء آخر مهما كان هذا الشيء مقدساً أو ثميناً. فالهوية تتكلم عن أناس متساوين أولاً ومنتجين أولاً أيضاً، يجتمعون في اقليم يسمى الآن (وليس سابقاً) وطناً يتمايز بمنتجاته ليصبح ضرورة بين المجتمعات المتنافسة على الارتقاء باتجاه السعادة. هذا هو السؤال، وهو السؤال نفسه الذي سأله القذافي لجمهور جماهيريته ذات مرة: «من أنتم؟». فهم ليسوا بمجتمع حتى يحق لهم الإجابة (وهكذا كان)، كما أنهم ليسوا بمنتجين حتى يعلنوا تنافسيتهم في وجه أي آخر (وهذا ما حصل)، وهذه هي الحقيقة الأشدّ سطوعاً بدلالة الواقع، وليست بدلالة «المستشرقين» على أية حال، فظهرت حقيقة من هم/ نحن، كما هم/ نحن (هم وغيرهم) دون رتوش أو مكياج، وذهبت جهود منظري الهوية أدراج رياح الملعون ديكارت.
المشكلة الأكثر سطوعاً، هي أن الهويّة مفهوم متغير في الزمان والمكان اللذين لا يبقيان التجمهر البشري وحتى المجتمعات على حال ثابتة، وجلّ من يبحثون في موضوعة الهوية يبحثون (ويصلون) إلى قيمة ثابتة جامعة مانعة لا تحول ولا تزول، وإذا كانوا على جرأة ما، فإنهم يذهبون باتجاه تقديم متغير حصل في الماضي وانتهى فعله ومفعوله، أما الواقع الحالي فهو عرضة لفتاوى حول موضوع الأنواع الهُويّاتية وشرعية اندماجها مع الحفاظ على مواصفاتها الموروثة، لينحرف بحث الهوية الأنواري إلى بحث التأصيل التراثوي، لتبدو «أصالة» الهوية أهم من الهوية (المبحوث عنها) ومن حامليها، خصوصاً تصادم مصطلحي «الأصالة» و«الأصلية»، انطلاقاً من ترجمة عابثة للمصطلح، في محاولةٍ لفبركة إيديولوجيا تقبل بالهجانة الهُويّاتية بناءً على خضوع الهويات الفرعية (غير الأصيلة) مع أنها أصلية لهذه الإيديولوجيا، البديلة من الثقافة «كونها صالحة لكل زمان
ومكان».
وهنا لا بد من ظهور العامل الحقوقي، وهو الأساس في مفهوم الهوية بالمعنى الأنواري الذي تم اشتقاق سؤال الهوية منه، فقبله كان الناس بشراً، والأوطان مجرد بلاد، وعند هذا العامل المؤسس (الحقوقي) ينعطف جلّ البحاثين عن الهوية وبالهوية من الناطقين بالعربية. ومن هنا أيضاً تتحول دراساتهم إلى مجرد أبحاث في الفلكلور، في محاولة (نجت حتى الآن) لتحويله إلى تراثٍ لا يأتيه الباطل من أي مكان، لتبدأ ثقافة الفتنة في استعادة حصونها وتمترساتها ودشمها ومن ثم فعالياتها، التي تستطيع تسميم وفرط أي عقد اجتماعي مهما كان بدائياً أو بسيطاً.
سؤال الهوية هو سؤال تأسيس المجتمع (بالمعنى التقني الحديث) وإعلانه، فسؤال «من نحن» الحداثي هو سؤال «من نريد أن نكون وكيف نكون»، وعليه فإن إيجاد هذا المجتمع هو هاجس حقوقي أصلاً، ولا يعفينا هذا الهاجس من النظر إلى الهوية بمنظاره، على أساس أنها إحدى تجليات وجود المجتمع لأنها واحدة من منتجاته، لها ضرورتها وفعاليتها الواقعية والعملية، وقد تكون واحدة من مواصفاتها هي العصبية المجتمعية (وليس التعصب بأي حال)، التي تعني في ما تعني الفخر والعزة والتمايز
الخ.
ولكن كل ذلك مربوط بالإنتاج والتنافس، فإذا لم يكن هناك إنتاج بهذا المعنى فعن أية هوية نتكلم! فالهوية أولاً وقبل كل شيء هي هوية بشر متساوين في الحقوق والواجبات بشكل مطلق، أي كمجتمع، يعملون وينتجون وعليهم حماية منتجاتهم والمنافسة بها، أما التجمهرات البشرية ما قبل مجتمعية فلا هوية لها، طالما كانت هناك إمكانية من داخلها أو خارجها للعبث بوجودها نفسه، لأن وجودها أساساً هو وجود اصطلاحي عبر توازنات القوى، وكذلك هويتها هي مجرد اقتراح أو (اجتهاد) لم يعوّل عليه يوماً، إلا على سبيل تحصيل المعلومات، دون أيّة فعالية تذكر، فهي اقتراحات غير قابلة للتطبيق أو الممارسة على عكس المفاهيم الأنوارية أو الحداثية التي تعتمد التقنيات الحقوقية سبيلاً لتفعيل
محتواها.
اليوم، كيف يستطيع دارسو الهوية ومنظروها الردّ على الواقع الممارس في العالم «العربي»؟ أية هويّة مما درّس ونُظّر لها يمكن أن تجمع ما فرقته المفاهيم المؤسسة لها؟ من يستطيع اليوم أن يقول من نحن؟ وما نحن؟
* سيناريست سوري