حين تلتقي سلطة تجلّي الموت، هذا الطقس الاجتماعي الذي يفترض تمجيد الموتى، مع قوّة عواطف جياشة تجتاح مجتمعاً بأسره، فإن أكثر ما نخشاه هو أن يتخبّط وضوح الأفكار في لحظة ضياع. بالطبع، لا بدّ أن يأخذ المرء طرفاً، فلكلّ حدث ظرفه ووقته الاجتماعيان: هناك وقت للتأمل ووقت لقول كلّ شيء مجدداً.ولكنّ ما ندين به لذكرى الموتى لا يعني سلبنا حقنا في الكلام حتّى لو أنّ الصدمة بلغت ذروتها. ولا يعني على الأخص منعنا من محاولة تقديم توضيحات في خضم هذا الارتباك والتعقيدات الفكرية والسياسية التي لا يخلو منها أي حدث متطرّف بحد ذاته. وتبرز أيضاً هذه التوضيحات بشكل خاص في ظل إِشراف مستنير لوسائل إعلام لا تفوّت فرصةً لتستعيد عافيتها على ظهر «حرية التعبير» وللسياسات التي احترفت فنّ التعويض عن أي خسارة.

في الواقع، يتجلّى جوهر هذا الالتباس في شعار واحد ألا وهو «أنا شارلي»، الذي قد يبدو واضح المعاني من النظرة الأولى، ولكن يخفي في طيّاته مشاكل متعددةً.
«أنا شارلي» جملة بسيطة، ولكن ما الذي تعنيه حقاً؟ في علم البيان، المجاز المرسل هو الكلمة التي تعني شيئاً آخر تكون على صلة به، مثل استخدام الجزء للتعبير عن الكلّ. وفي شعار «أنا شارلي»، تكمن المشكلة أن كلمة «شارلي» تعني أشياء عدّة مختلفة، ولكن متصلة في ما بينها. فهذه الأشياء المختلفة تتطلّب منّا واجبات مختلفة، وهنا من شأن المجاز المرسل أن يسهم في المزج بين هذه المعاني، فتنعدم القدرة على التمييز في ما بينها.
«شارلي» هم في الدرجة الأولى أشخاص عاديون، لهم كيانهم الخاص، وسرعان ما استخدمت هذه الكلمة لتشمل أيضاً شرطيين، ورجل صيانة، وزائراً تعيس الحظّ في ذلك اليوم، ثمّ خمسة أشخاص آخرين، بينهم أربعة يهود، قتلوا بعد يومين من الهجوم. ولا يمكننا ألا نشعر بالذهول والرعب إثر خبر عمليات القتل هذه إلا لو كنا مجرّدين من إنسانيتنا.
ولكن المشاعر ما كانت لتكون غامرةً هكذا لولا أن الجميع أدركوا أن المستهدفين هم أكثر من أفراد، وهنا المعنى الثاني المحتمل لـ»شارلي»، فهو مجاز مرسل يعبّر عن مبادئ حرية التعبير، وحرية قول ما نشاء من دون أن نخاف على أمننا الخاص، وهذا في صلب نمط حياتنا.
أنا لست شارلي
ولن أكون كذلك يوماً بعدما أصبحت هذه الصيغة بمثابة إخطار

لا بدّ أن ندعم «شارلي» إجلالاًً لأرواح القتلى، شريطة أن نتذكر أيضاً أشخاصاً آخرين قد قتلوا، منهم زياد (بنا) وبونا (تراوري)، وريمي فريس بعدهما، ونلفت إلى أن التعاطف الشعبي يتوزّع أحياناً بطريقة غريبة، وبالأحرى بطريقة غير متساوية بشكل مستغرب. يمكننا أيضاً أن نشعر بـ»شارلي» باسم الفكرة العامة، إن لم يكن من خلال طريقة محددة للعيش في المجتمع، أو تنظيم الكلام على الأقل، وهذا يعني باسم إرادة عدم الاستسلام أمام تعديات ستتولّى نفيها بشكل قاطع، فيبرهن عن حيويته المجتمع القادر على التعويل على أكبر قاسم مشترك يجمع أبناءه.
غير أن الأمور تصبح أكثر تعقيداً حين لا يعود «شارلي» يمثّل أفراداً ومبادئ عامة، بل شخصيات عامة اجتمعت في صحيفة، وبالتأكيد كان لهذه القراءة الشخصية الحظّ بأن تفرض نفسها بقوّة الدليل. فلا تعارض بين أن نحزن لهذه المأساة الإنسانية وألا نغيّر رأينا تجاه هذه الصحيفة، فمن جهتي رأيت في الأمر خلافاً سياسياً عنيفاً. فلو أنّ الأمر وفقًاً للمنطق يقضي بالقول إنّ تعبير «أنا شارلي» يشير إلى مجلة «شارلي»، فلكان هذا التماهي مستحيلا بالنسبة إليّ. أنا لست شارلي ولن أكون كذلك يوماً.
ولن أكون كذلك أيضاًَ بعدما أصبحت هذه الصيغة بمثابة إخطار، فتدحرجنا خلال ساعات نحو نظام قيادي لا يفصل بين العاطفة والسياسة. إذ منذ اللحظات الأولى، ذكّرنا شعار «أنا شارلي» بشعار «كلّنا أميركيون» الذي رفعته صحيفة «لو موند» في 12 أيلول 2001. ولم يستغرق الأمر أكثر من نصف نهار لتأكيد هذه النظرية مع رفع صحيفة «ليبيراسيون» الشعار بصيغة الجمع «كلّنا شارلي»، فأهلاً بكم في عالم الوحدة المفروضة الذي يحمل معه البؤس لمن يعانده.
هيا نحتفل بحرية التعبير تحت وطأة قمع أي انشقاق مع المزج خلسةً بين العواطف الناجمة عن المأساة والانتماء السياسي الضمني للخطّ التحريري. وقد نصل إلى محاكمة الصحافة الإنكليزية واتهامها بالنفاق وعدم إظهار ما يكفي من التضامن (الطاعة) لرفضها إعادة نشر الرسوم الكاريكاتورية، فكان علينا إذاً اجتياز البحر لإيجاد أشخاص لا تزال أفكارهم واضحة، فنسمع منهم حجةً أساسيةً وهي أن الدفاع عن حرية التعبير لا يعني بالضرورة تأييد التعابير التي يطلقها أولئك الذين ندافع عن حريتهم.
وكان هذا الإجماع المفروض محكم التّصميم لدرجة انكبّ عليه المستفيدون على اختلاف أنواعهم. وبدون أي شكّ إذا ما استندنا إلى الانعكاس الانتهازي، لبدت وسائل الإعلام كلّها شبيهة تماماً بالسلطات السياسيّة فهما تتشاركان في مهنة تشويه السّمعة، ولن تفوّتا فرصة مماثلة حتى تتسترا خلف «حرية الصحافة»، إذ إنّها ملاذ أعمالهما الشائنة. ونذكر صحيفة «ليبيراسيون» التي استضافت طاقم مجلة «شارلي إبدو» في مقرّها بكثير من التفاخر الإعلامي. هذه السفينة المتهاوية التي بيعت إلى كلّ القوى المؤقتة تعتبر نفسها الملاذ الأخير لحرية التعبير! على الأرجح لهذه الكلمة معانٍ أخرى. فكم من الجهات المشابهة لتلك التي تقف خلف ليبيراسيون تشارك في المزايدة على الشارلية؟
كتب سبينوزا في واحدة من رسائله «إن عاد إلى هذا العصر الرجل الذي قيل إنه يضحكك على كلّ شيء، فسيموت من الضحك بالتأكيد، إذ بالطبع يوجد ما يثير الضحك حين نرى مكوّنات الخضوع للنظام الاجتماعي وهي تمدح بكثير من الجدية رفض التقاليد والانقلاب الجذري على الواقع. نضحك طويلاً.. ولكن ليس طويلاً جداً، لأنه يجب التفكير أيضاً في كيفية الخروج من هذه المظاهر المضللة في يوم ما».
سيتم ذلك بدون مساعدة السلطة السياسية التي ليس لها أي مصلحة بفتح عيون الرأي العام والتي لطالما اعتمدت على مفهوم الوحدة الوطنية كواحد من أهم مواردها الموثوق بها. ولكم تكررت على مسامعنا صيغة الوحدة الوطنية بنبرة حازمة، وأخيراً الوحدة الدولية. وما كان يلزم إلا حملةً اندفاعية للتكفير عن الذنوب يطلقها فرنسوا هولاند لتحسين صورته واستعادة وهجه في باريس، «عاصمة العالم»، حتى يحثّ شخصيات رفيعة المستوى معروفة بموقفها المؤيد لحرية الصحافة وحوار الحضارات، ربما أمثال ثمّ أوربان، بوروشنكو، نتنياهو وليبرمان حتى يقفوا إلى جنبه.
ولحسن الحظ، يمكن الجزم بأن التأييد كافٍ إذ إنه لا داعٍي للقلق على كيفية حسن استخدام تلك السلطة أو استغلالها، وهذا واقع قد لا تغفل السلطة المذكورة عن تطبيقه واستغلال التظاهرات الجماهيرية التي ستبادر بشوق إلى اعتبارها بمثابة تفويض.
فنأمل إذاً أن يكون الدعم كافياً أيضاً للاقتراح على بعض المحررين تمضية فترة وجيزة في الزنزانة ريثما يتعافون من حالة الثَمَل التي هم فيها ويواجهون الحقيقة المُرّة. ومن باب الحرص على البقاء بنفس مستوى الأحداث التاريخية ــ لا بل على مستوى المنحدر المميت والمُعيب الذي تسلكه المعلومات بتواصل ــ ولكي نكون أول من «يعلن عن التاريخ»، كان منطقياً أن نصف التظاهرة بـ»التاريخية» و»الحدث التاريخي». وإن كان مسموحاً لنا الاستهزاء بالوضع الراهن، يمكننا أقله القول بأن الحدث كان بالفعل تاريخياً والأول من نوعه بالنظر إلى عدد رجال الشرطة الذي فاق عدد منظمي الفعالية. ومع ذلك، لا ندري ما إذا كان وقع التظاهرات الضخمة التي شهدتها مدينة «كاربنتراس» وتظاهرات الأول من أيار 2002، حيث شهدنا تجمعات جماهيرية أصابت المعلقين السياسيين بالهلع. إلا أنه يمكننا الجزم بأن تلك التظاهرات لم تأتِ بأي نتاج على الصعيد السياسي. نأمل بشدة أن تفضي تظاهرات اليوم إلى نتائج مثمرة، ولكن لا يمكننا إلا أن نتساءل، من منطلق عام، عما إذا كان ثمة أي مفعول استبدالي بين نسبة الإجماع وفحواه السياسي الممكن. من الناحية البنيوية، بغض النظر عما تحمله المادة السياسية من صراعات، لا تميل الحشود المتظاهرة إلى أي اتجاه سياسي. أو بالأحرى، ذلك هو مفهوم الثورة، عدم الانتماء إلى أي حزب سياسي. فالحقيقة كما نراها اليوم لا تعكس مفهوم الثورة الصحيح...
وأخيراً، لا يسعنا إلا أن نتساءل عن حقيقة «الوحدة الوطنية» التي نحضنها بمعانيها كافة. فالمظهر العام يوحي بأن الموكب الباريسي متجانس تماماً من الناحية الاجتماعية؛ فهو حشد أبيض البشرة، حضاري، مثقف. إلا أن العدد الخام لا يشكل معياراً تمثيلياً دقيقاً، إذ يكفي أن تكون نسبة تحرك إحدى الفئات الشعبية الفرعية مرتفعة بصورة استثنائية لإحداث نتيجة مماثلة. إذاً، هل هي «وحدة وطنية»؟ أو «تظاهرات شعبية»؟ أو «فرنسا المعتصِمة»؟ حريّ بنا أن ننظر مجدداً إلى هذا الواقع والتأكد مما إذا كانت تلك الوسيلة للمطالبة بحل المشكلة من خلال تحفيز التظاهرات الجماهيرية، هي وسيلة ماكرة، تهدف على وجه خاص إلى إعادة طرح المشكلة أو إنكارها. على غرار الفئة الحاكمة التي تميل دوماً إلى اعتبار سماتها عمومية الطابع وأن كيانها في العالم الاجتماعي يستنزف كل التعابير التي قد تُقال عن ذلك العالم. لا نستبعد أن تكون الحشود الجماهيرية المشاركة في تظاهرات يوم أمس (11/1/2015) قد لمحت إلى أن الطبقة البورجوازية المثقفة تعيد التأمل بإمكانياتها الخاصة وتتخلى عن حالة الرضى التي اعتادتها من تلقاء ذاتها. ومع ذلك، لا يمكننا الجزم بأن ذلك المشهد العام قد يصنع «بلداً» أو «شعباً»، إذ ستتسنى لنا الفرصة قريباً لنتأكد بأنفسنا ونتذكر الوضع. يا لها من وسيلة عمياء للتبجح بأحداث التاريخ الفرضية والفرار حتماً من التاريخ الواقعي الذي يتم بعيداً عن أي استيهام وغالباً خلف ظهرنا. ولكن التاريخ الواقعي الذي ينطرح أمامنا تعيس المظهر. فإن كنا نأمل أن نتمكن من تكييف ذلك التاريخ والإقرار بالوضع الحقيقي وندبه، ينبغي التفكير إذاً بوسيلة للخروج من حال الغباوة وإعادة صنع السياسة، ولكن هذه المرة بحقٍ.

(ترجمة هنادي مزبودي عن «لوموند ديبلوماتيك»)
(نصّ من مداخلة في سهرة «الانشقاق من خلال الصمت!» من تنظيم مجلة فاكير في بورس دا ترافاي في باريس في 12 كانون الثاني 2015)