يردّد الأميركيّون مثلاً شعبيّاً، يصلح في الواقع لتلخيص العقود الثلاثة الأخيرة من علاقة روسيا مع الغرب، خصوصاً بعد تبدّد الأوهام الروسية باستعداد الغرب لقبولها كقوة صاعدة. يقول المثل: «عار عليك إن خدعتني مرّة، وعار عليّ إن خدعتني ثانية». لم يخدع الغرب روسيا لا مرة ولا اثنتين فحسب، بل كان التعامل الأميركي معها متمحوراً بالكامل حول سياسة الخداع – لا بل الاستهزاء – منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي وطوال حقبة بوريس يلتسين الكارثية.

يلتسين: نموذج الغرب المفضّل

بين عامي 1991 و1999، أي بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي وتسلّم بوريس يلتسين زمام الحكم في موسكو، واعداً بتحويل روسيا من الاشتراكية إلى اقتصاد السوق والديمقراطية الليبرالية وبإجراء «انتخابات حرة» وبالانفتاح على الغرب، توفّي حوالى 6 ملايين مواطن روسيّ لأسباب «غير اعتيادية»، منها جرائم القتل والانتحار والأمراض وسوء التغذية. كذلك، ساد حينئذٍ الفقر وانهار الاقتصاد الروسي، وتحوّلت البلاد إلى مجرّد سوق تستهلك منتجات الغرب. حتى إنّ معدّل الوفيات وتراجُع الناتج القومي الإجمالي (بنسبة 60%) كانا يوحيان بأنّ روسيا في حالة حرب. هكذا أرادتها أميركا، دولة فاشلة، مُنهكة، تحكمها مجموعة صغيرة من العصابات الحريصة على مصالح الغرب. وفيما كانت الصحافة الأطلسية تمجّد «عبور روسيا نحو الديمقراطية»، كان يلتسين يحلّ مجلس النواب، ويقصف البرلمان، ويعزّز سطوة الأوليغارشيين على مقدرات البلاد وسياستها.
ما يؤكّد الدور الدفاعي لروسيا هو أنّ الولايات المتحدة ما زالت هي الجهة التي تصنع الأحداث بانتظام

إنّ فهم تجربة يلتسين في الحكم من هذا المنظور، ومعاينة التعاطي الغربي مع تلك الحقبة-الكارثة (يمكن الرّجوع، مثلاً، إلى المقالات والمرثيات التي تلت وفاته)، ضروريان لتفسير الصدمة النسبية التي أحدثها فلاديمير بوتين عند الأوروبيين والأميركيين، الذين باتوا يقيّمون السياسة الروسية على قاعدة انسجامها أو تعارضها مع سياسات عهد يلتسين – النموذج الروسي المفضل بالنسبة إليهم.

«تجريم روسيا إلى الأبد»

جاء فلاديمير بوتين ليعيد شيئاً من الاستقرار إلى روسيا منذ عام 2000، فبدأ الاقتصاد بالنمو مع الوقت، وتحسّنت الرواتب والأوضاع المعيشية والصحية، وانخفضت معدّلات الفقر بشكل كبير (كان الفقر يطاول ثلثي الشعب الروسي في عهد يلتسين). وإذ شرعت السلطات الروسية الجديدة بتشكيل بنية سياسية بمعزل عن سطوة الأوليغارشيين، وبالسيطرة على شركات النفط والغاز الكبرى وبناء قدرات عسكرية جديدة، بدأ المسؤولون في واشنطن يرتابون، وسرعان ما وصفت الصحافة الأطلسية نهج بوتين بـ«السلطوي» ووجّهت إلى الرجل تهماً تتراوح بين الاستبداد والسعي إلى إعادة إحياء الاتحاد السوفياتي ومعاداة الغرب (والأخيرة تهمة توجّه بوقاحة إلى كل من يبحث عن ضمان مصالحه خارج إطار منظومة الهيمنة الغربية). داخلياً، ازدادت شعبية بوتين بسرعة، نظراً إلى تحسّن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية بشكل ملحوظ.
في موازاة ذلك، سعت الدول الغربية إلى تقويض شبكة التحالفات والاتفاقات التي بنتها روسيا مع دول إقليمية وعالمية، وصاغت سياسة خارجية عنيفة وهجومية ضدّ الروس – رغم أنّ بوتين لم يتخلّ عن الاقتصاد الليبرالي، ولم يكفّ يوماً، منذ عام 2000 وحتى بداية شهر كانون الأول/ديسمبر الجاري، عن استرضاء الغرب، ودعوة أوروبا وأميركا إلى عقد شراكات سياسية واقتصادية مع روسيا ـ وبالتزامن مع دعم المعارضين الروس في الداخل والسيطرة على وسائل الإعلام الكبرى، التي بات الروس يسمّونها «طابوراً خامساً» قد ينقل الصراع إلى الأراضي الروسية (يقول الرّوس إنّ من يتحكّم بالتلفزيون عندهم يسيطر على البلاد)، سعى الغرب إلى محاربة جميع المساعي الجيوسياسية الروسية، عبر شنّ حروب عسكرية أو اقتصادية ضدّ دول تُعتبر كلها شريكة للروس أو ذات أهمية استراتيجية بالنسبة إليهم، مثل أفغاستان والعراق وجورجيا وإيران وسوريا وأوكرانيا أخيراً. وقد كان الرّوس طوال هذه المراحل في موقع الدفاع عن مصالحهم، ولم يكفّوا عن استرضاء الغرب للحظة.
يستغرب الإعلام الغربي اليوم دعم روسيا للأوكران «الانفصاليين»، مع أنّ هذا الدعم يندرج في إطار الدفاع الصرف عن النفس، لا الهجوم. ما يجري اليوم في دونيتسك ولوغانسك في الدونباس الأوكراني ليس إلا آلية كلاسيكية لمواجهة غزو خارجي. يقول النائب الروسي إفغيني فيدوروف إنّه بعد ارتكاب مجازر كالتي وقعت في كييف أو أوديسا مثلاً ضدّ الموالين للروس، وجد هؤلاء الأوكران أنفسهم أمام خيارين: إمّا أن ينضووا في تنظيمات سرية لكي لا تبيدهم قوات «مكافحة التمرد» (وجلّها من الجنود المرتزقة أو من بعض الأوكران الذين وقعوا ضحية 20 عاماً من البروباغاندا الغربية فصاروا مستعدّين لقتل إخوانهم)، أو أن ينسحبوا إلى «مركز المقاومة» في الدونباس حيث يمكنهم المشاركة في الكفاح المسلّح المُعلن ضد الغزو (واليوم، بحسب النائب الروسي، يمكن لدونيتسك ولوغانسك، اللتين أنتجتا هيكلية رسمية للحكم، تشكيل جيش لا يقلّ عديده عن الـ600 ألف، إذا اعتبرنا أنّ السلطات سوف تتمكن من حشد 10 في المئة من السكان للمشاركة في العمل المسلّح، وهي النسبة المعتادة في أيام الحرب. ويمكن لجيش كهذا ليس فقط أن يقاوم غزو مناطقه، بل أن يحرّر أوكرانيا بكاملها ويساهم في الدفاع عن روسيا، إذا افترضنا أنّ روسيا ستكون مستعدّة لتسليح هذا الجيش، وأنّها لن تتراجع عن المواجهة وتطيح بالتالي بنضال الأوكران). يستغرب الغرب ما يحصل اليوم في شرق أوكرانيا، مع أنّ من يسمّيهم بـ«الانفصاليين» شبيهون، مثلاً، بحركات المقاومة التي انبثقت خلال الحرب العالمية الثانية في أوروبا الغربية، أو بقوات «فرنسا الحرة» بقيادة الجنرال ديغول ضد حكومة فيشي، أو بالبولنديين الذين انضمّوا إلى الجيش الأحمر لتحرير وارسو. ولكنّ الغرب لا يريد النظر إلى روسيا كشريك، بل كمجرم تجب محاربته. هو صدّق النكتة التي ألقاها الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان قبل بدء خطابه الأسبوعي إلى الأمّة عام 1984: «أيها الأميركيون، يسرني أن أخبركم أنني وقّعت اليوم على قانون يجرّم روسيا إلى الأبد».
وما يؤكّد الدور الدفاعي لروسيا هو أنّ الولايات المتحدة ما زالت هي الجهة التي تصنع الأحداث، بانتظام، وبالتالي تجد روسيا نفسها في موقع الردّ الدفاعي. الهجوم الغربي الأخير على روسيا اتخذ شكل الحرب الاقتصادية المباشرة عبر العقوبات التي فرضتها أوروبا والولايات المتحدة على الروس. ولكنّ ذلك لا يعني بالضرورة ضعفاً روسياً أو سوء إدارة للمرحلة، فلكلّ من البلدين أهداف خاصة، يصوغ استراتيجيته بناءً عليها.

هل تفضي العقوبات الغربية إلى نتائج عكسية؟

يقول الكاتب الفرنسي تييري ميسان إنّ روسيا تتعامل مع الحرب الاقتصادية التي يشنّها حلف «الناتو» عليها كما كانت لتتعامل مع أي حرب تقليدية ضدها، فهي تلقّت العقوبات التي فُرضت عليها بهدف جرّ الخصم إلى ساحة قتال تختارها بنفسها، رغم المصاعب المرحلية، معتمدة سياستها التاريخية لإنهاك غزاة مثل نابوليون وهتلر: «الأرض المحروقة». نتائج هذه السياسة ليست مضمونة، إلا أنّ روسيا بدأت بالبحث عن بدائل عبر الالتفات إلى دول كالصين (التي عقدت معها اتفاقاً قيمته 400 مليار دولار أخيراً) وتركيا (ألغت روسيا مشروع خط النفط الجنوبي South Stream Pipeline في أوروبا وأبرمت اتفاقات مع تركيا تقايض فيها النفط بالمواد الغذائية). لقد وجّه الغرب عقوباته إلى المواضع التي تؤلم روسيا، وهي مكامن الضعف في اقتصادها وفي بنيتها السياسية. بنى بوتين، الذي كان يهدف إلى تسريع عجلة النمو، اقتصاداً يعوّل على تصدير النفط والغاز إلى الغرب بشكل خاص، وأبقى على معظم سياسات الخصخصة التي مارسها يلتسين (أي أنّ الأوليغارشيين، حلفاء الغرب التاريخيين، بقوا في مواقعهم، وقد ينقلبون على بوتين إن تضررت مصالحهم – والعقوبات الغربية تهدف إلى إحداث انقلاب كهذا في الكرملين عبر الضغط على النخبة المقربة من بوتين، التي تودع ثرواتها في المصارف الغربية)، وتنازل عن حلفاء له في آسيا والبلقان والشرق الأوسط وشمال أفريقيا – وهي كلها سياسات يُفترض أن تلائم الغرب، لو أنه أراد تقبّل روسيا الجديدة.
شكّلت العقوبات الغربية بداية انكماش الاقتصاد الروسي، فقد أدّت إلى تراجع أسعار النفط – وهي نتيجة غير محمودة للغرب وحلفائه – وإلى تراجع سعر الروبل الروسي. لا شيء يوحي بأنّ الهجمة الغربية على روسيا مرحلة عابرة، بل هي بداية مواجهة سياسية واقتصادية حادة وطويلة الأمد، وبات الرّوس يخشون جدّياً انتقال الحرب الأوكرانية إلى شوارع موسكو، لأنّهم يقدّرون أنّ إقدام واشنطن على إشعال الحرب الأوكرانية يعني أنّ أميركا مستعدة لمهاجمة روسيا. وقد بدأ الروس ينظرون إلى الأمور على النحو الآتي: الغرب لا يريد التعامل معنا كدولة قوية مهما قدّمنا له من ضمانات، وهو لم يكفّ يوماً عن ضرب مصالحنا في العالم. والنتيجتان الوحيدتان لهذا الصراع هما إمّا دمار الحضارة الروسية الحديثة التي بنيناها ومقتل 6 ملايين منّا أو أكثر مجدداً، وإمّا انهيار الإمبراطورية الأميركية مرة واحدة وأخيرة واضطرار أوروبا إلى الخروج عن طاعتها والتفاهم معنا.
حالياً، في ما يتعلّق بالحرب الاقتصادية، يعمل الروس على جبهتين: هم يسعون، أولاً، إلى تنويع قطاعاتهم الاقتصادية. كذلك، يمكن لبلادهم أن تصمد لأشهر رغم تراجع سعر الروبل، لأنها تحتفظ باحتياطي كبير من العملات الأجنبية، بما في ذلك الدولار. وقد أعلنت موسكو أنها سوف تتوقف تماماً عن التعامل بالدولار الأميركي، وأنها لن تبيع النفط والغاز الروسيين في المستقبل إلا بالروبل. إذاً، أجبرت روسيا كل من يريد شراء النفط منها أن يشتري عملتها الوطنية أولاً، وهي خطوة سوف تساهم في رفع سعر الروبل خلال الأشهر المقبلة عبر رفع الطلب العالمي عليه. أمّا في الوقت الراهن، فسوف تشتري روسيا عملتها من الأسواق العالمية بالسعر الحالي المنخفض، بهدف تركيز احتياطي الروبل في البلاد، ما يسمح لها بالتحكم بسعره في المستقبل.
يبرز احتمالان أساسيان قد تفضي إليهما العقوبات الغربية على روسيا: فإمّا أن يسعى الأوليغارشيون المتضرّرون من العقوبات إلى الضغط على السلطة الروسية من أجل اتخاذ مواقف أقل «صرامة»، وإلى استبدال بعض المسؤولين بآخرين أكثر انسجاماً مع النمط الاقتصادي الغربي، فتدخل روسيا عهداً «تصالحياً» جديداً مع الغرب، وإمّا أن يقرّر بوتين خوض المواجهة بما يطيح بالدور الذي يؤديه الأوليغارشيون في هيكلية السياسة الروسية. إن نجح بوتين في مهمته هذه، سينتهي طور الإمبراطورية الأميركية وسيدخل العالم مرحلة تاريخية جديدة. وإذا فشل، سيضطر إلى الإذعان مجدداً للغرب المتهاوي ويؤجل مشاريعه للعقود المقبلة. وفي الحالتين، يقول الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك، ستبقى الصين تتقدّم بخطى واثقة نحو قمّة العالم، بينما ينهمك خصومها في إضعاف بعضهم بعضاً.
* من أسرة «الاخبار»