strong>رائد شرف*قد يقال إن مشهد المهزلة النيابية في جلسة الثقة على حكومة سعد الحريري الأولى لم يكن بالمميز، وإن اللبنانيين كانوا كالمعتاد على موعدٍ مع إبراز الطبقة السياسية لسلطانها وتلاحم أعضائها. أما على الصعيد الاجتماعي، فقد كانوا على موعدٍ مع عرض النظام لمدى ظلمه وتنافيه مع الأخلاق العامة، إذ يصح التساؤل عن عدد نواب المجلس الذين يلبّون أبسط شروط الكفاءة في خطاباتهم، إن كان في المضمون أو حتى في الأسلوب. هنا، كان مثال رئيس الحكومة الجديد باهراً. وقد تناقل الناس على سبيل المرح تسجيل خطابه المرئي الذي تخطى عدد مشاهديه على الإنترنت النصف مليون مشاهد. إنما لحادثة خطابه دلائل أخرى على مستوى القراءة الاجتماعية: لقد تجلت حقيقة سعد الحريري في دور اجتماعي لا يصح له. كان مثل ملكٍ، مدلّلٍ، ورث العرش، ولم تناسب قياسه الثياب الملكية. ومع ذلك، عنونت جريدة المستقبل صفحتها الأولى كالآتي: «الحريري: مسؤوليتنا إعادة تظهير ديموقراطية النظام». هكذا، «الملك يرقص» كما يقول الفيلم، والبلاط يتفرج، ويصفّق، ويكتب الخطابات، مع أن «الملك» لا يجيد القراءة. لقد شاهد اللبنانيون البلاط في جلسة المبايعة البرلمانية. كما شاهدوه في الإفطارات الرمضانية، وفي المهرجانات السياسية، بأجمل حلاته، جامعاً النساء والرجال في التصفيق. البلاط موجود، كمنظومة اجتماعية نافذة في السياسة اللبنانية، وكنموذج اجتماعي يريد تعميم نمط عيشه، وإليكم بعضاً من هذا العيش.

الأراضي الأميريّة

قد تكون تسمية البلاط ثقيلة، حتى نظريّاً، في وصف أي مجتمع لا يستخدم هذه التسمية لنفسه، وهي تسمية لها دلالات تاريخية كثيرة، وتفترض وجود قوانين اجتماعية جديّة. ما سيتبع هو محاولة للإحاطة بمركز القرار السياسي وبظروف تكوين هذا القرار. والتحليلات التي تتبع ربما لا تعني الكثير من العاملين في مؤسسات المستقبل، إلا أنها ترسم صورة نموذج نجاح ومكافأة مهنية وحياتية في هذه المؤسسات. يكاد هذا النموذج أن يكون أكثر النماذج فعالية، حيث إن كامل أشكال الاحتكاك بالحريري ومؤسساته تتحدث بلغته: من الخطاب، إلى اللعبة السياسية، إلى الهندسة المعمارية.بين فصول «الهندسة المعمارية» في شكلها البلاطي، تقع المقالة التي نشرتها جريدة المستقبل في تاريخ ٦ شباط ٢٠٠٨ (بعنوان «نُصب تذكاري ضخم تخليداً للحريري في مكان الانفجار»)، والتي أعلنت قرب إتمام نصب تذكاري عن الحريري، «النصب الأضخم في لبنان» في موقع الانفجار في «السان جورج» محاطاً «بمجسّم حديقة شبيهة بحديقة قصر قريطم». إذ يبدو أنه أصبح هناك «حديقة لبنانية» الآن، بعدما قضت الحريرية على كل أمل في إنشاء حدائق جديدة في بيروت، لا بل إنها تعمل على تدمير ما بقي منها، فحديقة قريطم تكفي، تماماً كما يحتوي فرساي على «الحديقة الفرنسية» النموذجية، طبعاً بمقاييس مختلفة. أضف إلى ذلك فصول تسمية المنشآت العامة على اسم الرئيس الحريري، مثل المستشفى الحكومي، المطار، مبنى الجامعة اللبنانية... إلخ، التي تصب معظمها في خانة امتلاك الأمكنة.

الملك يرقصفي مرحلة ما بعد اغتيال الحريري، كانت مؤسسات البلاط الحديث العهد، الذي كان يربط الحريري نشاطاتها بعضها ببعض، تصبّ أعمالها نحو التراصّ الرمزي، لإبقاء وحدتها واستمرارية زخم مشروعها، «مشروع الحريرية». في تلك المرحلة، كُتبت في الصحف بعض روايات العلاقة البلاطية وعالم البلاط، كما صدرت كتب المقربين أو «طالبي القرب» عن الحريري «مستر ليبانون». وكانت هذه الكتابة تدخل كلها ضمن ديناميكيات عامة من وضع النقاط على الحروف، للتيار السياسي الناشئ، الذي فقد رأسه وكان عليه الاستمرار، بالعودة إلى ما كان يعتبره كلٌّ من الكتبة قاعدة رفيق الحريري السلوكية التي تصلح نهجاً. ومن بين ما جاء في ذلكالوقت، صحافي من العاملين في الإعلام الحريري يكتب في روايته عن الحريري أنه ذهب ذات يومٍ إلى قريطم، وبينما كان يبحث عن الحريري في قاعات القصر، وقع مثلاً، وهذا تفصيل في الرواية، على صحافي آخر يشاهد التلفاز في إحدى القاعات. صورة من صور «حريات التصرف» في القصر. الصحافي فارس خشان يصف في مقالة كيف كانت «اللهفة» تغلبه عندما كان يستدعيه الحريري إلى غرفة التلفزيون، الملاصقة لغرفة النوم (أنظر مقالة «رفيق الحريري في سر نجاحه» التي تكاد تكون وصفاً اثنولوجياً متطوراً لهذا المجتمع). صحافيٌ آخر، قديرٌ في المهنة، يكتب في افتتاحيته عن اجتماع عقده مع الحريري في قريطم، ويصف لحظة القربة والتحاور عبر سرده تفاصيل اجتماعهما في مضمون الحديث، كما بتفاصيله الصورية، للتأكيد على الحميمية. فيتحدث عن نزهته والحريري في غرف القصر، ثم تأتي لحظة دخل فيها والحريري مكتب الأخير، ليجدا فيه بعض الأصدقاء للحريري مجتمعين، وإذ بهؤلاء يخلون المكتب من تلقاء أنفسهم للحريري والصحافي كي يتحدثا بخصوصية. نرى في الأمثلة الآنفة كيف أنه، مثل البلاط في نموذجه المركزي الفرنسي، يجمع «الأمير» حوله من هم أعضاء فريق حكمه، في مساحةٍ تبقيه قريباً من أفكارهم ومطامعهم. والمطامع في مجتمعٍ «أميري» لا تجد متنفّساتها إلا في ثروات الأمير، لأنّ الأمير يملك كل الثروات، وهي حال ثروات طبقة الرأسماليين اللبنانيين التي وجدت في الحريري رأس حربتها ومدير إعادة إنتاجيتها. يصبح إذاً قربُ الأمير من مطامع أعضاء بلاطه وسيلة من وسائله في السيطرة على مسيرتهم الاجتماعية، وعلى مسيرة محيطهم، وليس فقط استعانة وظيفية بخبراتهم لغاياتٍ دعائية، كما يدّعي بعض الخطاب التحليلي التبسيطي. يقول فارس خشان مثلاً في هذا الموضوع (المقال نفسه): «تذكرتُ كم كنا نتعب لنبقى في «أسرار الآلهة»، خوفاً من أن يتصل بنا، ويسألنا عن الأخبار، فنظهر أمامه «جاهلين»، فنخسر كلماته التي تُفرز فينا مادة التنشيط والسعادة التي أدمنّاها». يظهر هذا المثل العلاقة بين الحريري والرجال العاملين عنده، وهي علاقة يصح القول إنها «موضوعية مقلوبة» عند من يعيشها. إذ إن الحريري يستحصل على المعلومات من العاملين عنده كأنها مجانية، خارجة عن نطاق علاقة/ عقد العمل. لا بل يجهد العامل في المؤسسة الحريرية هنا إلى الاجتهاد لإرضاء رئيسه، ويربط قيمته الشخصية بهذا العمل. وهذه الرابطة ليست بالمميزة، فأغلب المؤسسات الرأسمالية المعاصرة تسوّق لنفسها على أنها «مدرسة قيمية»، أو على أنها حاملة لقيمٍ ذات شأن، لتغيّب وتستّر على الدافع الأول والموضوعي للعمل، وهو رأس المال و«أخلاقيات توزيعه» المنافية للأخلاق. وتسويق الشركات «الأخلاقي» لنفسها قد ازداد منهجية في السنوات الثلاثين الأخيرة في الدول الصناعية، بهدف محاربة الفكر النقابي والتعاضد بين العمال. وذلك عبر عزلهم، أفراداً، وإغرائهم بالدوافع الشخصانية، كأن كرامتهم تكمن في امتحان العمل. خذ الامتياز مثلاً، وكأنّ الامتياز الذاتي عن طريق العمل لا يستوي دون شعور بالتمايز عند العامل تجاه زملائه في العمل.

بين رجل المجتمع ورجل البلاط

طبعاً، في حال البلاط، تختلف الأمور في العلاقة بين ربّ القصر والمداومين فيه، وتأخذ مستوى أكثر تطرّفاً. فالبلاط يخلط بين الحياة الخاصة والحياة المهنية، حتى تتبخّر الحدود بينهما. ويكف التمايز عن كونه مرتبطاً بصفات المهنة، كما يحصل في المؤسّسات الرأسمالية. وكيف لنا أن نحلل ما يسرده مستشارو الحريري عن استدعائه لهم وهم في منازلهم، وهواتفهم مغلقة، عندما يخبروننا هم في كتاباتهم أن كلمة محبّة منه ذهبت بهم إلى التنزّه وزوجاتهم في «الوسط التجاري» والاحتفال حتى ساعة متأخرة من الليل؟
والذهاب إلى «الوسط التجاري» ليس بالشيء التافه. فحتى في الاحتفال والحياة الخاصة و«شم الهوى» يعودون إلى الحريري، وكأن كائنهم المديني لا يرى نفسه إلّا في هذه البقعة من الأرض. إذاً للمكان، أكان قريطم أو «الوسط التجاري»، معانيه الرمزية، المسوّقة في الإعلام الحريري. فضلاً عن المعاني غير «الواعية» والمعاني غير «التسويقية». فارس خشان مثلاً، في نصه المذكور أعلاه يرى في هندسة جناح التلفزيون في قريطم صفات الحريري، «هذه البقعة من الدارة تشبه صاحبها إلى حد التماثل، حيث يتزاوج الفخم والعملي، في تناغم نادر».
فقط في هذه الظروف، تتحول علاقة العمل بين الحريري وأعضاء مؤسساته إلى عالمٍ كامل، إلى أمر يشمل كل حواس الإنسان الاجتماعية. فارس خشان مثلاً، يرى في الحريري سبّاقاً على «باولو كويلو» في «نظريته الخاصة بمصرف الخدمات»! قد يملأ خشان كتاباته بكل أشكال التثقف البورجوازي الصغير، الخاصة بمسيرته الاجتماعية، إلا أن المحصول العام من مقاله سوف يصب دائماً في بناء شخصية الحريري. فكلّ حواسه، حتى في هذا التمرين «المهني» المتقن الذي هو المقال المكتوب يحوّرها نحو بناء صورة الحريري الرمزية وهالته. صورة تستند اجتماعياً إلى السحر، والهالة، على حساب المنطق. فمن اللافت مثلاً في مقال لخشان عن الحريري ولحود، أن الكاتب يتحدث عن انزعاجه من لحود، لأن الأخير «شتم» الحريري واتهمه... بمعاداة الفقراء. والعيب، في الخبرية، أن لحود شتّام، أما جدلية «مصلحة الفقراء» فليس لها من تتمة في المقال.
هكذا إذاً، في المنطق السياسي، يمكن الحريري الابن، وهو استمرارية لصورة الأب، أن يعادي النظام في الشام، ثم يصادقه، وأقلام مؤسسات المستقبل سوف ترى في عمله درّة المنطق والسلوكية «السليمة». فهؤلاء لا يأبهون بتعذيب السجناء في سجون النظام السوري، ولا بالواقع الاقتصادي الاحتكاري الذي يغذيه هذا النظام. وحدة مواقفهم وشخصهم في موقف «الأمير» وهالته، وهذا تناغم كبير في حياة الإنسان يصعب توافر شروطه في أغلب المواقع السياسية وما تمليه من مواقف عند معتنقيها. ليس من السهل على الإنسان أن يكون راديكالياً، بمعنى أن يتجانس مع نظرة فيها قطيعة مع واقع محيطه الاجتماعي، أو حتى نظرة متجانسة إلى هذا الواقع. والمرحلة المتأزمة الأخيرة كانت خير دليلٍ على مدى استعداد الحريرية إلى الذهاب بأعضائها من موقع اجتماعي «امتصاصي» لبقية الأحزاب والتيارات، بما لهذا النهج من عواقب اجتماعية، إلى موقع «عدائي» وتصادمي تجاه أكبر قوّتين شعبيتين على الساحة السياسية. كانت المرحلة الأخيرة اختباراً ممتازاً لمستوى تراص البلاط ومدى استعداد أعضائه للقطيعة مع واقعٍ عملوا هم أنفسهم على تكوينه وتشخيصه: ألم يتحدث صحافيو البلاط في الماضي القريب عن قدسية تلازم المسارين؟ ألم يتحدث اقتصاديوه عن «نمو اقتصادي» وقسم من البلاد ما زال محتلاً؟ مع أن السلاح الآن بات مشكلة. فقط في هذه الظروف، حيث العاملون في مؤسسة مؤمنون بنهج هذه المؤسسة ولديهم نظرتهم الموحّدة إلى مسيرتهم وإلى صيرورتهم الشخصية مع شخصية المؤسسة، يمكن المؤسسة أن تمضي في مشروع تعميم نهجها على باقي فئات المجتمع عبر سياسة وثيقة تدميرية للآخرين. وقد شهدنا ذلك أثناء اعتصام «المعارضة» ـــــ التيار الوطني الحر وحزب الله وحلفائهما ـــــ عندما كتب معلقو المستقبل المقالات والتنظيرات العنصرية ضد من تجرّأ على «توسيخ» «الوسط التجاري الحبيب». كانت معظم النصوص، حتى البعض في النقد الأدبي، تبرز شقّاً مهمّاً من «القرف» و«الانزعاج» و«الخوف» تجاه الاعتصام و«احتلاله» الساحة العامة، على طريقة التمايز البلاطي، لكن لكل كاتب في منطق تمايزه الطبقي الخاص.
وقد يكون التناقض في الموقع الموضوعي للمثقفين أن مهنتهم التي تجمع المهني بالخاص، لكثرة تجنيدها للعواطف والحواس، تسمح وتشجع على تلبية شروط الاستقلالية الشخصانية التامة (كما كان وضع سيد قطب في السجن مثلاً) كما الاستزلام الكامل.
في هذه المساحة الاجتماعية المدعومة هندسياً، يذوّب الأمير طموحات رجاله ونسائه ويجرّدها من كل الخصائص الاجتماعية الخاصة بمسيرة هؤلاء، خصائص طبقية وطائفية مثلاً في حال البلاط الحريري. لتصبح أشكال أعمالهم (صحافة، استشارة، تعليم جامعي، إعلانات، شعر)، بتنوّعها، وكلها أعمال ذات فائدة دعائية، أشكالاً عديدة من حكم الأمير على المجتمع، تزيد سلطانه شمولية. وليبقى محور التنافس بين أعضاء فريقه مجرد دوافع فردية بحلّتها الشخصانية. فنرى مثلاً أن الحريرية وحدها بين التيارات السياسية في لبنان تضم عدداً لا بأس به من «الأجنحة»، بيد أن الاختلاف بين هذه الأجنحة منعدم، إن لم تكن تمليه فقط دوافع وصولية. مع أن الصحف اللبنانية تتحدث عن صراع بين فؤاد السنيورة ونهاد المشنوق، وكأن سوء التفاهم في الفريق الواحد هو حول وجوب الاصطفاف مع أندروبوف أو ريغان، مع ما لهذا الاصطفاف من توابع على الأرض الاقتصادية والاجتماعية اللبنانية.
طبعاً، بالنسبة إلى المجتمع، لا تعني اختلافات الآراء بين أعضاء الفريق الحريري الكثير، وهي لا يمكن تبريرها بلغات إجماعٍ، باللغة «العادية»، وتتطلب الكثير من البهلوانيات الخطابية التي يجيد ممارستها الصحافيون، وتسمح بممارستها لعبة الإعلام والسياسة في لبنان. حتى لو صوتت الجماهير الغفيرة «زي ما هيي»، لا يمكن الافتراض أن التصويت أتى في نفس منطق ولاء مجتمع البلاط الاستزلامي، وما يمليه هذا الولاء من تخلٍّ عن الذات الاجتماعية (يعني تحليلات هذا المقال لا تخص إلّا أعضاء البلاط). لكن كيف للعاملين في البلاط أن يتصالحوا مع هموم وخطابات كهذه؟ كيف لعوالمهم أن تختصر بالولاء المطلق لعائلة حاكمة مستحدثة؟ وجلّهم آتٍ من أوساط عقائدية تطرفت سابقاً في انتقادها للأمر الواقع وللعائلية السياسية. طبعاً، هنالك أسباب تخص كل شخصٍ في البلاط على حدة، والعامل الاقتصادي من بينها، مع أنه لم يحث غيرهم على التحول، فمنطق الرشوة لا يفسر كل شيء. بيد أن الجامع والموحد بين الجميع، الذي تظهره أمثلتنا الآنفة من شهادات لصحافيين، هو هرمية لغة الأجساد.
تكاد ثقافة الأجساد توازي ثقافة العقل أهميةً في تكوين الإنسان، أقله اجتماعياً (نعم، «العقل السليم في الجسم السليم»). فالأطفال يتعلّمون، بين ما يتعلمونه في المدرسة، أن يستمعوا إلى من يفوقهم حجماً، أو إلى من يجلس على منصة، وأن المكافأة أو العقاب، في الصف كما لاحقاً في الحياة، أكبر حجماً للشاب منه للفتاة على ما لاحظ بورديو في «السيطرة الذكورية». وهذه بعض من الأنماط الاجتماعية التي تعني الأجساد وحركتها، والمؤطرة لتصرفات الناس وتجاوبهم مع محيطهم لمدى حياتهم. وأغلب الظن أن لقريطم، كما لأي مساحة هندسية، خصائص تطويعية للأجساد. أقلها أن قريطم هي معقل ومكان اجتماع الحريريّين، وليس الحريري من يذهب إلى منازل أعضاء فريقه. والهرمية الاجتماعية تبدأ هنا. وإن ذهب الحريري إلى منازل موظفيه، فلم يكثر زياراته. وباتت بالتالي هذه الزيارات بمثابة نزهة من أعالي سلطانه الدائمة، تصلح مقياساً اختباريّاً عند من شرّفهم بالزيارة، ومن شهدوها لارتفاع مرتبته التي نزل عنها استثنائياً. فما هو يا ترى المنطق الاجتماعي الكامن وراء إخلاء أصدقاء الحريري قاعةً، من دون أن تعطى إليهم الإشارة بذلك، عندما دخلها الحريري والصحافي القدير، إن لم يكن منطق تربية الأجساد؟

مجتمع مسالم يحب الحياة

البلاط الفرنسي في نشأته، يخبرنا نوربرت إلياس في كتابه «مجتمع البلاط»، كان من شروط استواء حكم الملك على الأرستقراطية الحربية عن طريق ابتلاعها في مجتمعٍ «مسالم» ومؤدب، وجعل هذا المجتمع، البلاط، مثالاً لإحلال السلم التأديبي على مجتمع البلاد الأوسع. لذلك كانت عادات مجتمع البلاط تتنظّم حول كيفية سيطرة كل فردٍ على أحاسيسه، ومحافظته على كرامته في وجه بقية الأفراد، دون تخليه عن طموحه الأرستقراطي. والسابقة التاريخية للبلاط الفرنسي، الذي سيلهم كل بلاطات العالم الصناعي، وستأخذ البورجوازية المنتصرة والمتوسعة بعض صفاته، صفات التمايز العنصري في الذوق والسلوك، لتعميمها على مجتمعات العالم كله... هذه السابقة تسمح إذاً بافتراض الديناميّة نفسها في البلاط الحريري كما غيره، مثل البلاط السعودي.
شرط نجاح البلاط الأول أن يكون فوق المجتمع، والملكية الفرنسية فرضت سلطانها عبر حروب دامت أكثر من ٤٠٠ سنة، أعادت من خلالها توحيد ما كان يحسب من ضمن بلاد الفرانك عبر كسب ولاءات بعض الإقطاعيين، وقمع المستعصين منهم على الولاء. وهذا ليس بالتفصيل في الحالات اللبنانية، هذا يفترض أنه لكي يتمكن البلاط من أن ينجح، على مجتمعه أن يمسك بأعلى المناصب. فالبلاط مشروع هيمنة لا يدخل ضمن منطق السياسة الديموقراطية العاملة بالمداورة. في حال الحريري، لقد استوى سلطان بلاطه دون معارك، في مرحلة الهراوي الرئاسية. وكان قد رضخ لمشيئته قادة الميليشيات كلهم والنظام السوري من ورائهم، حيث كان غيره يُقمع وتُسد في وجهه أبواب النجاح. حصل على موقعه دون تعب، حيث كسب قادة الميليشيات مواقعهم في الدولة واللعبة السياسية بعد معارك دامية في مرحلة الحرب، وبعد تلبيتهم مهمات ارتزاقية شبه مستحيلة في بعض الأحيان، قطعت بينهم وبين الفئات الاجتماعية التي أتوا منها، أو ادّعوا تمثيلها. وانتخابات ١٩٩٢ شاهدة على شرعية الميليشيات ونظام الجمهورية الثانية عامةً ورئيس الوزراء، الذي رضي تمثيل كتل البرلمان آنذاك. جاء الحريري من فوق الجميع، وكان على الجميع تسهيل مهمته، وإفساح الدرب له في التوسع في جهاز الدولة، وفي الإعلام، وفي كل المجالات المهنية. لا يمكن إحصاء فعالية هذا السلطان في مقال وربما في كتاب: هيمنة رمزية وفعلية على النفوس، تفشت في المجتمع اللبناني بمباركة النظام في الشام، الذي كان مشغولاً ببطش الطلاب العونيين، وبمنع اليسار من التحالف مع حزب الله في وجه أمل (هل كان لهذا المقال أن ينشر في جريدة قبل سنة ٢٠٠٥؟). هيمنة رمزية نرى تجسيدها في المجتمع السياسي والإعلامي اللبناني المسلّم بالخطوط العريضة لإدارة الدولة التي وضعها الفريق الحريري في التسعينيات كأنها من طبيعة لبنان.
وحدها لحظات ذروة الأزمات السياسية، حيث يصبح كل موقعٍ سياسيٍ على محك، في أسس ارتكازه، واللعبة السياسية لا تفي أغراض السياسة نفعاً، يتكلم الأفراد بما كانوا لا يتكلمونه من قبل، وينفضح بعض من شروط ارتكازهم وارتكاز علاقتهم بالآخرين. مثل هذه المعدة للبرامج العاملة في تلفزيون المستقبل التي قالت، عند مارسيل غانم عشية عمليات ٧ ايار ٢٠٠٨، إنها لم تكن في السابق تعتبر نفسها في تنافسٍ مهني مع تلفزيون المنار، ناسيةً أنها تعمل في محطةٍ تحمل نفس الاسم واللون والشعارات والميزانية والقيادة للتيار السياسي الذي تسوّق لسياساته. هكذا، عندما وُظف في السابق أغلب العاملين في مؤسسات «المستقبل» الإعلامية، كان موقع الحريري السياسي والثقافة المهنية للصحافة يكملان بعضهما

حديقة قريطم تكفي تماماً كما يحتوي فرساي على الحديقة الفرنسية النموذجية
بعضاً، وجهين لعملة واحدة، حتى من لم تصله عملات نفطية من الصحافيين، كان متسامحاً. لكن هناك المزيد، فارس خشان مثلاً في مقاله عن الحريري «في سر نجاحه»، يتحدث عن اقتراحه على الحريري منع قاضٍ من أخذ «قرار بتوقيف المديرة التنفيذية في بنك المدينة رنا قليلات»، لكن الحريري، لنبله، رفض الفكرة. هذا في وضع القضاء. طبعاً، قصد خشان أن «يحمي القاضي من قراره»، فهو له نظرة براغماتية للنظام اللبناني، تؤمن كالنظرة الاستشراقية أن الفساد والنهب صفات جوهرية للناس في مجتمعاتنا العربية لا يتحمل مسؤوليتها السياسيون، وهذا يدخل ضمن إطار معتقدات مشتركة عند أفراد البلاط. فهم فوق المجتمع، وسلوكهم وحده يمثّل القدوة التي على المجتمع أن يتبعها. وهي معتقدات، لا تخلو كما أشرنا، من العنصرية الاجتماعية. نهاد المشنوق مثلاً، يخبرنا في مقالة لمحمد أبي سمرا، نشرت في جريدة النهار في الذكرى الثانية لاستشهاد الحريري، أن «الرئيس الشهيد» في موضوع حزب الله، كان يزعجه: «حمله إعلامه وشاراته الحزبية في تظاهراته ومهرجاناته في شوارع بيروت، التي تنقل مشاهدها شاشات التلفزة العالمية، مما ينقل صورة عن لبنان لا تخدم توجهات البناء والإنماء وإعادة الإعمار وجذب الاستثمارات والسيّاح، ما دامت بيروت لا الجنوب وحده، ميدان هذه التظاهرات والمهرجانات» (النهار في ١٣ شباط ٢٠٠٧). معظم هذه الأمثلة تحتوي على عناصر من التعالي الممزوج باللامبالاة، وبالتقسيم الجغرافي للسلوك الاجتماعي، حيث إن الإصلاح الاجتماعي الوحيد الذي يتجلى فيها هو من طراز آداب المائدة و«إلزم حدودك»، القمعية رمزياً، والمرتاحة في موقعها. مجتمع بلاطي نموذجي لا يأبه إلا بامتيازاته، ولا يصرخ للنجدة إلا عندما يصبح توازن العالم الذي يرتكز عليه مهدداً.
هو مجتمع مسالم، يحبّ الحياة، ويختصر مشروعه في الأوقات العصيبة بشعارٍ بائخ وبسيط نسخه إعلان عن إعلانيين أجانب، لأنّ هذا الشعار يختصر شروط ارتكازه وواقعه: كل اللذّات متوافرة له وبعيد عن واقع مجتمعه المأزوم. كم من الشعراء والكتاب اختصروا مسيرتهم الفنية باعتناقه، بتكرار نفس المصطلحات الارتزاقية للنظام القائم ببغائياً؟ فيما المكافأة في مهنهم هي في «الابتكار»... و«التمايز».
* باحث لبناني