لا يعني استعصاء التنمية الاقتصادية في لبنان أنّ لبنان محكوم تاريخيّاً بالتخلّف، ولا سبيل إلى إحداث تنمية حقيقية فيه، بل يعني استعصاء التنمية في ظل النظام السياسي الاقتصادي الحالي والطبقة الحاكمة تاريخياً فيه. فهذا النظام الذي يمثل مصالح الطبقة التجارية والمالية الريعية، لا يسمح بإحداث تنمية حقيقية شاملة ومتوازنة
غالب أبو مصلح *
في البداية لا بد من التذكير بالفارق الكبير بين النمو الاقتصادي والتنمية. فالنمو يعني ارتفاع الناتج المحلي القائم، أي كمية السلع والخدمات التي يجري تبادلها في السوق من الإنتاج المحلي، يضاف إليها ما يصدّر إلى الخارج من هذا الإنتاج، مقوّماً بالسعر الثابت للعملة. أمّا التنمية، فلا تتعلّق بمستوى الإنتاج وحسب، بل أيضاً وأساساً بتوزيعه بين رؤوس الأموال من ناحية، والرواتب والأجور من ناحية أخرى، وتتعلق بتحسين حياة المواطنين وظروف معيشتهم وتطويرها. وهي تعني كمية الخدمات التي يحصلون عليها ونوعيتها، من سكن وتعليم وطبابة وعناية صحية، وتحسين البيئة وترسيخ الأمن، وتوسيع فرص العمل والحماية من البطالة وتقليص نطاق الفقر، وإطالة مدة الحياة المتوقعة للإنسان، إلى ما هناك من مؤشرات اجتماعية واقتصادية تحدد نوعية الحياة للمواطنين.
ويمكن النمو المشوّه، الذي يستهدف قطاعاً معيناً أو طبقة معينة فقط، على حساب بقية القطاعات والشرائح الاجتماعية، أن يحدث نمواً عكسياً، أي أن يسبب مزيداً من التخلف. إن نمواً مشوّهاً كالذي يحدث في العديد من دول العالم الثالث المستتبعة في ظل سيادة أيديولوجيا الليبرالية الجديدة، يمكن أن يستهدف تنمية التجارة الخارجية، والاستيراد للسلع الكمالية خاصة، وزيادة ربحية رؤوس الأموال والنشاطات الريعية، فيعيد توزيع الناتج المحلي لمصلحة أصحاب رؤوس الأموال على حساب الرواتب والأجور، فيوسع الفروقات الطبقية، ويقلّص فرص العمل، ويوسّع نطاق الفقر والفقر المدقع، ويقلص شبكة الأمان الاجتماعي ويفاقم التدهور البيئي والتوترات الاجتماعية. وهذا ما حدث في العديد من دول العالم، منها دول عربية مثل مصر والأردن ولبنان على سبيل المثال لا الحصر.
فمنذ انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، وقبل استكمال مسيرة التحرر، أُغرق اللبنانيون بكل أنواع الوعود المعسولة، ووُضعت خطة للنمو الاقتصادي (خطة آفاق ألفين) لإعادة الإعمار والنهوص الاقتصادي. ولكن هذه الخطة فشلت فشلاً ذريعاً في تحقيق استهدافاتها. ودأبت فذلكات الموازنات العامة على الضجّ بالوعود المعسولة سنوياً، لتأتي النتائج مخيبة للآمال، ولا من يحاسب على الصعيدين الشعبي والرسمي.
وبدل تحقيق تنمية حقيقية، دُفع لبنان إلى فخ المديونية. وتساقطت أكثرية الطبقة الوسطى إلى مصاف الطبقات الدنيا، إلى نطاق الفقر. واتسعت دائرة الفقر والفقر المدقع، وتردّى مستوى الخدمات الأساسية ونطاق تغطيتها، وانخفضت المداخيل الحقيقية للأكثرية الساحقة من اللبنانيين، وخاصة من ذوي الدخل المحدود، بينما ارتفعت ثروات قلة من اللبنانيين بمعدلات هائلة، واختلف وقع السياسة المالية.
فالسياسة المالية في جميع دول العالم، أي الجبايات العامة والإنفاق العام، تعيد توزيع المداخيل لمصلحة الشرائح الدنيا في المجتمع. فعبر الضرائب التصاعدية تأخذ نسبة من دخل الأغنياء، وعبر دعم العديد من السلع والخدمات الأساسية تعطي دخلاً حقيقياً للشرائح الدنيا، فتضيق بذلك الفوارق الطبقية.
أما في لبنان، وبسبب المتغيرات الضرائبية التي أحدثتها الحكومات الحريرية، والتي وضعت الأعباء الضريبية على عاتق الشرائح الضعيفة في المجتمع، وبسبب نمو كلفة الدين العام البالغة نصف معدل الواردات العامة، التي تذهب إلى المصارف وكبار أصحاب رؤوس الأموال، كما بسبب تدني الخدمات العامة، أصبح وقع السياسات المالية سلبياً. وساعد على توسيع الفروقات الطبقية بدل تضييقها.
ولم تكترث الطبقة الحاكمة وممثلوها في السلطة لاعتراضات العديد من الاقتصاديين وتحذيراتهم من مخاطر السياسات النقدية والمالية المتبعة. فقد نُبِّه إلى استحالة استرداد دور لبنان السابق على الصعيد الاقتصادي، نتيجة تطورات الداخل اللبناني والمحيط العربي، كما الدولي، ونتيجة تطورات هائلة في وسائل الاتصال والمواصلات، واستحالة جعل بيروت مركزاً للشركات المتعددة الجنسيات في الشرق الأوسط، وإن أُعيد بناء وسط بيروت حسب أرفع المقاييس. كما جرى التنبيه مراراً وتكراراً لمخاطر تراكم الدين العام ودفع لبنان إلى فخ المديونية ووضعه تحت وصاية «إجماع واشنطن». ولكن الطبقة الحاكمة كانت تدرك ما تفعل كل الإدراك، وتعرف نتائج سياساتها.
لم تنجح السياسة النقدية في تثبيت سعر صرف الليرة. فتثبيت سعر صرف الليرة لا يقاس بسعر الدولار
ولمنع المحاسبة والمساءلة، جرى تكبيل مؤسسات الرقابة والمحاسبة والإحصاء أو شلّها، واستُخدمت كل وسائل الإعلام للتغطية على فشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية عبر الترويج للازدهار والتقدم الاقتصادي، بينما تُطمس وتُخفى كل المؤشرات الأساسية التي تدل على تراجع المقومات الاقتصادية للبنان، وتُظهر تراجع معدلات العمالة والدخل الحقيقي لمعظم بنيه، وتردّي معظم الخدمات الاجتماعية والبيئية.
1) جرى التشديد على إظهار فوائض ميزان المدفوعات، مع التنكر لميزان المدفوعات الجاري الذي يستثني الديون الخارجية وتدفقات الودائع من الخارج، والتي يمكن أن تُسحب في أي وقت. وهذا الميزان يظهر عجزاً يصل إلى 20% من الناتج المحلي القائم. كما يُهمَل الميزان التجاري الذي يظهر تدني القدرة التنافسية لقطاعات الإنتاج السلعي من زراعة وصناعة، وتدنياً في معدّل تغطية الواردات بالصادرات، الذي انخفض من أكثر من 50% إلى أقل من 15% للعديد من السنوات.
2) جرى التشديد على ارتفاع كمية الودائع لدى المصارف. ولنموّ الودائع عاملان أساسيان:
أ ــــ ضخ مصرف لبنان السيولة إلى السوق المحلية (بسبب اكتتاب المصارف بسندات الخزينة أساساً)، ومضاعفة هذا الضخ المالي الذي يبلغ في الأوضاع العادية حوالى الخمسة (5).
ب ــــ استقطاب ودائع من خارج السوق، بسبب ارتفاع الفوائد الحقيقية على الليرة اللبنانية والدولار، وتحويل بعض تدفقات الدولار إلى العملة اللبنانية. ولكن الحديث عن استخدامات هذه الودائع يبقى خافتاً بل غائباً. إذ إن السياسات الاقتصادية المتبعة خلقت بيئة معادية للعمل والتوظيف في قطاعات الإنتاج الحقيقي، وبسبب ارتفاع كلفة الأموال إلى معدلات تفوق المردود المنتظر من التوظيفات. وبالتالي، إن ارتفاع كمية الودائع يكون مؤشراً إيجابياً إذا أدى إلى ارتفاع مماثل في التسليفات المنتجة، وهذا ما لم يحدث في السوق المالية اللبنانية3) التباهي بارتفاع ربحية المصارف اللبنانية، ونمو رؤوس أموالها الخاصة. إن قطاع المصارف هو قطاع وسيط بين المدخرين والموظفين، وليس قطاعاً ينتج خدمات نهائية. وكفاءة القطاع لا تقاس بارتفاع ربحيته عموماً، بل بضيق كلفة الوساطة المالية لديه وتدنيها، أي بضيق الفارق بين الفائدتين الدائنة والمدينة. وهذه الهوة جد مرتفعة في لبنان، وتبلغ أضعاف ما هي عليه في الأسواق المالية العالمية، وتدل على البنية الاحتكارية لقطاع المصارف، وغياب سوق مالية رسمية تنافس المصارف التجارية في دور الوساطة. لذلك، فإنّ ارتفاع معدل الأرباح، أو مردود رؤوس أموال المصارف، يُعدّ ظاهرة سلبية وغير إيجابية على الإطلاق.
4) امتداح السياسة النقدية، واستقرار سعر صرف الليرة، وارتفاع احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية. وفي هذا الامتداح خداع كبير. فالسياسات النقدية لم تحصّن الليرة عبر تنشيط قطاعات الإنتاج، بل عبر رفع الفوائد الحقيقية إلى معدلات جاذبة للأموال الخارجية، للتوظيف في سندات الخزينة اللبنانية، رافعة الطلب على الليرة والمديونية العامة، وطاردة القطاع الخاص من سوق الاقتراض بالليرة، وحتى بالدولار. وهذه سياسات جد خطرة على المديَيْن المتوسط والطويل، إذ إنها تضعف الإنتاجية وتراكم الدين العام.
ولم تنجح السياسة النقدية في تثبيت سعر صرف الليرة. فتثبيت سعر صرف الليرة لا يقاس بسعر الدولار، بل بالحفاظ على سعر صرف الليرة بالنسبة لسلة من العملات مثقل حسب نسب الواردات والصادرات، مع أخذ فروقات التضخم بين الليرة وتلك العملات في الاعتبار. بذلك نحافظ على القدرة الشرائية الحقيقية لليرة وقدراتها التصديرية. والذي حدث في التسعينيات أن سعر الصرف الحقيقي لليرة رُفع بنسبة 100% مما انعكس انهياراً بالصادرات اللبنانية، وذلك نتيجة ربط سعر صرف الليرة بالدولار، ولكنه أعطى قدرة شرائية متنامية للّذين دخلهم بالليرة في تلك الفترة، ثم شهد سعر الصرف الحقيقي للّيرة انهياراً كبيراً منذ بداية العقد الحالي، فانخفضت القدرة الشرائية للّيرة إلى أقل من نصف ما كانت عليه من قبل، وبالتالي خفضت القيمة الحقيقية للرواتب والأجور إلى أقل من نصف ما كانت عليه عند بداية الألفية الثالثة، وأنتجت ارتفاعاً نسبياً بالقدرة التنافسية لبعض قطاعات الإنتاج. ثم إن أرقام احتياطات مصرف لبنان لا تدل على ما يملكه مصرف لبنان من نقد أجنبي. فالأرقام المعلنة تشمل ودائع المصارف التجارية بالنقد الأجنبي لدى مصرف لبنان، كما ودائع بعض المصارف المركزية العربية وبعض صناديق المال العربية. وتبقى الاحتياطات الحقيقية الحرة لدى المصرف المركزي طي الكتمان الشديد.
5) إن معدلات النمو الاقتصادي المعلن عنها في لبنان، لا تستند إلى أي مقياس علمي، إذ إن السطات في لبنان ترفض إجراء أية دراسة إحصائية علمية للاقتصاد، وتأخذ من بعض مؤشرات الاستهلاك دليلاً لمعدلات النمو التي تتناسب مع رغبات الحكم وتخدم مصالحه الدعائية، مثل خفض نسبة الدين العام للناتج المحلي القائم، للتغطية على تفاقم الدين العام وكلفته الاقتصادية والمالية والاجتماعية.
معدلات النمو الاقتصادي المعلن عنها في لبنان لا تستند إلى أي مقياس علمي
هذه السياسات الاقتصادية المالية النقدية المتبعة، لم تكن نتيجة جهل، بل نتيجة مصالح الطبقة الحاكمة وارتباطاتها التي ازدادت ثراءً على حساب الأكثرية الساحقة من اللبنانيين. فأصحاب المصارف استطاعوا زيادة رؤوس أموال المصارف بحوالى 1000% (ألف في المئة) خلال أقل من عشر سنوات، وأن يرفعوا من معدلات الربحية لديهم إلى أضعاف أضعاف معدلات ربحية المصارف في العالم. وأصحاب الوكالات الحصرية المحمية قانوناً، استطاعوا أن يرفعوا مردود رؤوس الأموال لديهم إلى أكثر من 50% سنوياً مقارنة بمردود يقل عن 5% على الصعيد العالمي. وبذلك استطاعت البنية الاحتكارية لقطاعات الاقتصاد اللبناني أن ترفع معدلات الأسعار في لبنان بحوالى 30% عن معدلات الأسعار العادلة، أي إنهم يسرقون حوالى ثلث دخل أصحاب الدخل المحدود.
إن انتشال لبنان من التدحرج نحو الهاوية لا يمكن أن يحصل عبر وصول بعض الوزراء الحسني النيّة إلى السلطة، مدعومين بقوى سياسية لم تعرف الفساد. فالإصلاح في أي وزارة مرتبط بمجلس الوزراء ككل، وعمل كل وزارة متداخل مع أداء العديد من الوزارات الأخرى. لنأخذ مثلاً وزارة الزراعة ووزيرها الحالي الذي يبذل جهداً كبيراً للنهوض بهذا القطاع. إن موازنة وزارته هزيلة جداً نتيجة أولويات أخرى للسلطة. فقد طلبت منظمة الأغذية الدولية رفع إنفاق دول العالم الثالث على الزراعة إلى 10% من مجمل إنفاقها الفعلي مخافة الأزمات الغذائية المنتظرة على الصعيد العالمي. ولا يأمل وزير الزراعة عندنا رفع نسبة موزانة وزارته إلى عُشر الرقم المطلوب. ثم إن نهضة الزراعة تتطلّب تطوير البنية التحتية من طرق زراعية، وسدود وأقنية ري، وهذا خارج سلطة الوزير. أضف إلى ذلك مشكلة ارتفاع كلفة التمويل، إذ يبقى هذا القطاع خارج إطار السوق المالية الرسمية في معظمه. ويلجأ المزارعون إلى الاقتراض من المرابين أو عبر شركات بيع الإنتاج الزراعي، والاستدانة حتى الموسم. وتصل كلفة الأموال الحقيقية إلى حوالى 150% فائدةً سنوية. وهذا أمر معيق للنمو الزراعي، ولا يستطيع الوزير معالجته. وهناك التسويق المباشر أو عبر الوسطاء، وكلفة التخزين والتبريد أو عبر التصنيع والتصدير. وكل ذلك يمر عبر وسطاء وبنية احتكارية عالية الكلفة تسلب من المزارع أكثر إنتاجه.
وما يصح على الزراعة يصح على أكثر القطاعات. فالنهوض بقطاعات الاقتصاد يتطلب إرادة وقناعة من الطبقة الحاكمة. ووضع خطة اقتصادية شاملة ومدمجة (Integrated). كان من واجبات وزارة التصميم على أن تفعل ذلك، وأُلغيت وزارة التصميم بفضل رفض الطبقة الحاكمة لمثل هذه الخطة وهذا النهج.
إنّ انتشال لبنان من التدحرج نحو الهاوية لا يمكن أن يحصل إلا عبر تغيير عقلية الحكم ونهجه وأولوياته، أي عبر تغيير الطبقة الحاكمة. هذه الطبقة المتحصنة بتحالفاتها الخارجية وبنظام الطائفية السياسية والديموقراطية التوافقية التي تمكّن أي قوة مذهبية من تعطيل أي إصلاح جزئي للنظام، لن تسمح بقيام ديموقراطية حقيقية تعكس المصالح الحقيقية للجماهير، بحيث تزول الامتيازات الطائفية ويتساوى جميع المواطنين بالحقوق والواجبات.
ويساعد على استمرار استعصاء التغيير الديموقراطي، التراث الشعبي والثقافة الشعبية المعيشة، الناتجة من تراكم تاريخي. فلم يعرف لبنان تاريخياً سلطة معبّرة عن إرادة الجماهير، وفي خدمتها. بل كانت السلطة خارجية (عثمانية وفرنسية) تتمثل بجابي الضرائب والعسكر كأداة للقمع الداخلي. السطلة لم تنبثق من إرادة الشعب، ولم تعبر عن مصالحه، ولم تكن في خدمته. وما زال المواطن ينظر إلى الزعماء وقادة الطوائف كحماة له من جور السلطة وعدوانيتها. وهو لا يشعر أن المال العام هو ماله، وأن موظفي الدوائر الرسمية هم لخدمته، بل يتوسط لديهم بالنواب والزعماء إن أمكن، أو بالرشوة. وهو لا يجرؤ على محاسبتهم، فكيف به يحاسب الزعماء والقادة من نواب ووزراء؟
إن تغيير رؤية المواطن للسلطة والإدارة ولدور النواب وواجباتهم ضروري لإحداث تغيير في اللعبة الديموقراطية، وفي تغيير نظام الطبقة الحاكمة بوسيلة أو بأخرى.
* اقتصادي لبناني