هشام نفاع *ربما كان أعظم أكاذيب العصر السياسي الراهن هو ما تجري لفلفته بكلمة «الأمن». لا يقتصر هذا على نُظم الاحتلال المباشر، العسكريّ منه والاقتصاديّ، أي النموذجين المتلائمين مع تعريفي: الاستعمار التقليدي وذلك الحديث. لا بل إن حكومات الدكتاتوريات والملكيّات والإمارات تتفنّن في استخدامه تارة بعبارة «النظام العام» وأخرى بـ«سلامة الجمهور» وحتى «الاستراتيجيّات» المبهمة. للأسف الشديد، لا حاجة للتعب بحثاً عن مثال ملائم. يكفي النظر إلى قطاع غزة المحاصَر شمالاً بجدران إسرائيل باسم «الأمن»، وما يُخطط له من حصار في جنوبه بتسميات «استراتيجية» يردّدها وزير خارجية نظام مصر.
«الأمن» يطال عيون الناس. وليس في هذا أيّ ترميز أو استعارة. فها هي سلطات الاحتلال الإسرائيليّ على حاجز «بيت حانون» شمال القطاع تحظر على 17 فلسطينياً يعانون أمراضاً مختلفة في العيون، مغادرة قطاع غزة لغرض إجراء جراحة ماسّة لزرع قرنية. طبعاً باسم «الأمن» وبقرار من «جهاز الأمن الداخلي» بالذات. ذلك العلاج غير متاح في جهاز الصحة المنكوب في غزة المحتلة، فكان أمل هؤلاء في مركز للعيون في رام الله المحتلة، يتمتع بظروف أفضل بقليل.
جمعية أطباء لحقوق الإنسان الإسرائيلية تلقّت توجهاً من مركز «مسلم التخصصي لطب وجراحة العيون في رام الله» للمساهمة في المساعدة. فقد استُدعي محدودو البصر الغزّيّون إلى رام الله لغرض زرع قرنيات مطلع كانون الثاني/ يناير، ومنهم من ينتظر هذه الجراحة منذ ثلاث سنوات. القرنيّات المخصصة للزرع جاءت ضمن إرساليّتين من الولايات المتحدة تحتويان على عشرات القرنيات، وهي تبرّع من Tissue Bank International، منظمة أميركية تساعد في زرع قرنيات وأنسجة. ففي كل سنة، تُرسَل قرنيات في فترة عطلة عيد الميلاد، التي لا تجري خلالها جراحة من هذا النوع، كتبرع لجهاز الصحة الفلسطيني، وهي مخصصة لمرضى العيون من غزة.
أوباما مطالب بالتفسير لمواطنيه، وليس للفلسطينيين، أين ذهبت القرنيّات التي تبرعوا بها؟
على أثر توجه المركز الطبي في رام الله، ثارت مخاوف من أن السلطات الإسرائيلية منعت خروج المرضى من غزة. وبناءً عليه، تقدمت جمعية أطباء لحقوق الإنسان بطلب مستعجل إلى مديرية التنسيق والارتباط في غزة، وهي المسؤولة عن إصدار تصاريح خروج للمرضى. وقد حذرت الجمعية في توجهها من أن منع خروج محدودي البصر إلى جراحة العيون هذا الأسبوع سيؤدي بالضرورة إلى فقدان فرصة زراعة القرنية في الفترة القريبة ــــ هذا إذا تمّت أصلاً ــــ لأن مفعول القرنيات المعدّة للزرع ذو وقت قصير. فيمكن زرعها في غضون 48 ساعة على الأكثر منذ لحظة التبرع. لكن حتى هذه الأمور الدقيقة طبياً وصحياً اصطدمت بجدران «أمن» احتلال إسرائيل.
فقد منعت السلطات الإسرائيلية خروج المرضى الـ17 إلى الجراحة في الموعد. خمسة منهم لم يتلقّوا أجوبة على طلب الانتقال من القطاع إلى الضفة؛ استُدعي مريضان لاستجواب لدى «جهاز الأمن العام»؛ رُفض طلبان؛ وصودق على 8 طلبات، على أثر ضغوط، ولكن بعدما كان موعد مفعول القرنيات قد انتهى. هل يسمع هذا «الأشقاء» في النظام العربي المهرولون للتطبيع مع إسرائيل بل يستضيفون وزراءها على أراضيهم السياديّة؟!
في الوقت نفسه، متّعَنا أحد أجهزة الاحتلال الإسرائيلي بتقرير ديماغوجي يكاد يداعب المشاعر (إذا تبلّدت). ففي بيان نشرته الخارجية الإسرائيلية قبل أسابيع، صدر عن «مكتب تنسيق أعمال الحكومة في المناطق (المحتلة) في وزارة الأمن» تحدّث عن التسهيلات السخيّة التي تقدّمها «مديرية التنسيق والارتباط لقطاع غزة». التقرير يزعم أن عام 2009 شهد «تكثيفاً لنشاط المنظمات الدولية في القطاع رغم الأوضاع الأمنية المعقدة، حيث طرأ ارتفاع نسبته 125% على عدد الرعايا الأجانب الذين عبروا إلى القطاع». وأيضاً: «طرأ ارتفاع بنسبة 28% على عبور السلع الإنسانية من إسرائيل إلى داخل القطاع». حتى أن أحد الضباط كاد يقرظ شعراً في «التعاون المثمر مع المنظمات الدولية الذي يسمح لنا بتلبية احتياجات السكان الفلسطينيين في قطاع غزة»، والذي وصفه بأنه «يعيش حالياً تحت حكم الإرهاب». هكذا! فليس الاحتلال هو الإرهاب بعينه، بل من يقاتل لأجل وقف الإرهاب ضد حرياته وحقوقه الأساس، حتى على نور عينيه.
هناك حشد من الفلسطينيين مقطوعي الأطراف بعد العدوان الهمجي الإسرائيلي «الرصاص المصبوب» على غزة قبل سنة. وحشد ممن فقدوا القدرة على الحركة والعمل. لكن سلطات إسرائيل ترفض حتى السماح لهم بالتنقل لتلقي أي علاج. وهو ما يأتي وسط إطلاق جميع الأكاذيب التي تلائم المسامع الدولية الرسمية، والتي لا تتميّز بالرهافة العالية، بل تنشغل بالبحث عن توازنات تقنيّة هي في الختام لمصلحة آلة قمع تدهس تحتها أجساداً وأعضاءً فلسطينية مصابة. وعلى الرغم من أن إسرائيل هي الدولة التي تمارس الاحتلال وتقع عليها مسؤولية صحة من تحكمهم رغماً عن إرادتهم، تواصل «المنظمات الدولية» عملها كالمعتاد وتتجاهل أن إسرائيل تنتهك جميع أحكام الحرب المعمول بها شرعاً، ناهيك عن الأخلاق، تلك التي لا يمكن إدراجها في سياق الحديث عن «أخلاقيات» الاحتلال الإسرائيلي (وعشّاقه من أنظمة العرب).
تقارير الدبلوماسيّات هي من سماكة الجلد وثقل الدم بحيث تصعّب على المرء تحسُّس ألم البشر. دبلوماسية إسرائيل تحاور «المنظمات الدولية» بلغة تقنية إحصائية، باردة، جافة ومخادعة، تخفي الحقائق المؤلمة التي تفقأ العيون في غزة. تلك المنظمات مطالبة بتفسير موقفها من هذه المزاعم الإسرائيلية التي تمرّر على ظهرها. وهي مطالبة بالتفسير لـ17 فلسطينياً محدودي البصر، لماذا يجب أن ينتظروا إلى أجل غير مسمّى ممارسة حقهم الأساس في تلقي علاج يعيد إليهم نور العيون. وربما كان الرئيس الأميركي باراك أوباما نفسه مطالباً بالتفسير لمواطنيه، وليس للفلسطينيين، أين ذهبت القرنيّات التي تبرعوا بها، تحت وطأة الوحشية الإسرائيلية. كدتُ أنسى، لو كانت هناك دبلوماسيّة عربية فعلاً، لكان بالإمكان مطالبتها بشيء على سبيل ذلك، ولكن (حالياً!)
هيهات...
* كاتب فلسطيني