سعد الله مزرعاني *نُظّم في ذكرى 13 نيسان، هذه السنة، الكثير من النشاطات. معظمها حمل رسالة الرغبة والآمال في عدم تجديد مآسي تلك الحرب. البعض الآخر اكتسب طابعًا رمزيًّا مثل مباراة المدينة الرياضية التي تبقى رغم ما أثارته من انتقادات أو ابتسامات، علامة تجاوب مع الرغبة الشعبية في ترسيخ السلام الأهلي ولو فولكلوريًّا.
لكن، بالمقابل، لم يُقل إلا الكلام القليل في استعادة أسباب تلك الحرب وفي الدروس التي يجب استخلاصها من أجل عدم تكرار فصولها وكوارثها. إنّ نقد الحرب، أي تحديد أسبابها الداخلية والخارجية، ومن ثمّ صياغة العبر المناسبة والصحيحة، هو أمر لم يحصل في لبنان على المستوى المطلوب، وخصوصًا من الأطراف التي انخرطت في الحرب وكانت طرفًا رئيسيًا فيها. ويزيد من خطورة ذلك أنّ هذه الأطراف ما زالت موجودة وبعضها ما زال فاعلاً ومؤثّرًا، ناهيك عن أنّ معظم هذه الأطراف ما زال تقريبًا، يحمل الأهداف العامة نفسها وينطلق من المنطلقات السياسية و«العقائدية» ذاتها التي كان يعتمدها في السابق وما زال يعتمدها حتى اليوم.
ثم إنّ ما ساعد في تغييب المسؤوليات أيضًا، أنّ الحرب انتهت بتسوية كان من شروط حصولها، إشراك الجميع، تقريبًا، في السلطة الجديدة، وإصدار عفو عام عن جميع الارتكابات العامة والخاصة التي حفلت بها. أما استثناءات قانون العفو، فبقيت شكلية، وكأنّها وُضعت لرفع العتب، أو ليكون بعضها سلاحًا احتياطيًا في خدمة مجريات الصراع في المرحلة الجديدة، أي في مرحلة قيام سلطة ما بعد إقرار «اتفاق الطائف» والبدء بتنفيذ بعض بنوده منذ عام 1990، أي في مرحلة الإدارة السورية الأمنية والسياسية وحتى الإدارية للبنان.
ما تتيحه هذه المقالة يمكن أن يتناول فقط جزءًا من تجربة «الحركة الوطنية اللبنانية»، الطرف الثاني الأساسي والرسمي في الحرب (نظريًا وعمليًا) حتى عام 1982، أي حتى حصول العدوان الإسرائيلي الشامل على لبنان.
قلنا إنّ «الحركة الوطنية» كانت الطرف الثاني، لأنّه كان هناك طرف أوّل هو «الجبهة اللبنانية» في تلك المرحلة. ولقد مثّلت هاتان الجبهتان القوّتين الرئيسيتين في مشهد الصراع الدامي آنذاك. وينبغي ألا يقع جدال في أنّه كان صراعًا أهليًا كاملاً، ولو أنّ البعض ما زال ينكر حتى الآن، ذلك الطابع الأهلي للصراع، مدّعيًا أنّها كانت «حروب الآخرين على أرضنا» فحسب! ولقد كان وما زال، من شأن توصيف كهذا، أن يمعن، من قبيل الغرض أو المرض، في إلغاء الأسباب والتناقضات الداخلية لاندلاع العنف في بلدنا، في تلك المرحلة أو قبلها أو بعدها. ومن شأن ذلك، بالتالي، إبقاء جذوة الصراع فالعنف، متأجّجة تحت الرماد، فتعود للاشتعال من جديد، في كلّ مرّة تخرج الأمور عن السيطرة تحت تأثير حركة الصراع والمصالح الداخلية والخارجية.
بديهي أنّ ذلك لا يعني أبدًا انتفاء الأسباب والعوامل الخارجية للصراع ولإطالة أمده، كما حصل، إلى ما يقارب الخمسة عشر عامًا. على العكس من ذلك، يجب التوصل إلى تحديد موضوعي لكلّ الأسباب والعناصر الخارجية أيضًا، وخصوصاً أنّ الصراع الداخلي في لبنان، يستدرج بالضرورة التدخلات الخارجية على سبيل الاستقواء أو الإغراء. وفي الحالتين يتحوّل لبنان ساحة، بل ملعبًا ينال شعبه وتنال سيادته ومؤسساته ووحدته... النصيب الأكبر من الأضرار والخسائر.
«الحركة الوطنية» كانت مشروع سلم ولم تكن مشروع حرب
وفي تجربة «الحركة الوطنية» التي ترأسها الشهيد كمال جنبلاط ولعب دورًا رئيسيًا في تأسيسها، ينبغي القول، بدءًا، إنّها لم تكن مجرّد طرف في الحرب الأهلية اللبنانية، ولو أنّها قد أصبحت كذلك وأصبحت طرفًا نشيطًا فيها في ما بعد. فهذه الحركة التي انطلقت من «لقاء الأحزاب والقوى السياسية» عام 1964، قد شقّت مسيرة مهمة جدًّا قبل أن تتبلور في صيغتها الرسمية وتبني مؤسساتها (المجلس السياسي المركزي ومجالس المناطق) عام 1975. أما الأبرز في تلك المسيرة، فقد كان السعي لبناء مشروع وطني محلي لبناني، بعدما كان معظم القوى المسمّاة وطنية وقومية آنذاك، مشدودًا فحسب، إلى مرجعية خارجية في مصر وسوريا والعراق... أو إلى مرجعية أممية في موسكو خاصة... أما باقي القوى فتتوزّع وفق مرجعياتها الطائفية المحلية التي ليست بدورها خالية من الارتباط والنزوع الخارجيين في الغرب، بدءًا من باريس إلى واشنطن... وإذا كان من أركان مشروع «الحركة الوطنية» تأكيد انتماء لبنان العربي وترسيخ موقعه في الصراع الدائر في المنطقة ضدّ مشاريع الهيمنة الاستعمارية والاغتصاب الصهيوني، فإنّ الركن البارز كان أيضًا على جبهة العمل الاجتماعي. ففي هذا الحقل كان التأسيس الأرسخ لمشروع الحركة الوطنية حين توحّدت القوى والجهود في المجالات النقابية والطلابية والتعليمية، وفي وسط المزارعين... من أجل بناء القاعدة الاجتماعية الكفاحية للمشروع الوطني، وعبر كفاح مثابر ونجاحات باهرة، أطلقا دينامية كبيرة على مستوى البلاد وأخرجا الصراع من معادلته التقليدية السابقة حين كان محصورًا ومحاصرًا في نطاق تنازع الكتل الطائفية على السلطة والنفوذ والمواقع.
أما الركن الثالث والأكثر حيوية، فقد تمثّل في تبني شعار إلغاء الطائفية، وخصوصًا السياسية منها. وحفّز ذلك حركة تغيير وإصلاح على مستوى البلاد ككل، وبما كان يتعدّى قدرات أحزاب الحركة الوطنية منفردة.
في سياق ذلك، نستطيع القول، دون تردّد، إنّ «الحركة الوطنية» كانت مشروع سلم ولم تكن مشروع حرب. وهي قد انخرطت في النضال الديموقراطي السلمي وحقّقت نجاحات مشهودة كما ذكرنا. وهي لم يكن يضيرها في شيء أن يستمرّ الأمر على هذا المنوال حتى تتوافر لها الأرجحية التي تمكّنها من إحداث تغيير أساسي في النظام لجهة إلغاء الطائفية السياسية، وإحداث تحوّل أساسي في علاقات لبنان العربية والدولية على حدّ سواء.
غير أنّ الحركة الوطنية، مع ذلك، قد اندفعت في الصراع والعنف والاقتتال. لا بل إنّ أطرافًا أساسية فيها، قد استسهلت السعي من أجل إحداث تغيير جذري على مستوى السلطة في لبنان، استنادًا إلى معطيات وتحالفات الصراع الدامي نفسه في تلك المرحلة. وكان ذلك ينطوي بالضرورة وبالتأكيد، على استقواء بالعامل الفلسطيني أو سواه، دون حساب ما ينطوي عليه ذلك من خطأ مبدئي ومن مجازفة أكيدة، ثم من تبرير تدخل خارجي من نوع آخر. وما لبث ذلك أن وقع فعلاً وعلى شكل مأساوي في بعض فصوله، وخصوصًا عندما اغتيل الشهيد كمال جنبلاط في آذار من عام 1977.
لقد كان من واجب القوى الوطنية في لبنان أن تحمي المقاومة الفلسطينية، وخصوصًا بعد عام 1970، أي بعد مجازر «أيلول الأسود» في الأردن. لكنّ المبالغة في إطلاق حرية حركة العمل الفلسطيني في أشكاله المشروعة وغير المشروعة، لم يكن من الأمور التي يمكن أن تحصل من دون مجازفات كبيرة، وخصوصًا أنّ الطرف الفلسطيني توّاق للتوسّع والحركة دون مراعاة العوامل الداخلية اللبنانية. وهو مستهدف أكثر، بسبب ذلك، من أعداء قضية الشعب الفلسطيني في واشنطن وتل أبيب، ومن حلفائهم على المستوى الرسمي العربي. ولعلّ ما اعتمدته المقاومة الإسلامية ولا تزال، من مرونة وتنازلات داخلية، (رغم أنّ هذه المقاومة لبنانية) يساعد على تبيان ما نريد قوله، بشأن بعض الأخطاء الكبيرة التي ارتكبتها في تلك المرحلة المقاومة الفلسطينية و«الحركة الوطنية» اللبنانية في الوقت عينه.
أما أثر ذلك فيبقى، طبعًا، مادّة نقاش. ولا يمكن الجزم بالتالي بأنّ الأمور كانت ستأخذ مجرى آخر. لكن بالتأكيد كان يمكن تفادي الكثير من الأضرار التي أصابت علاقة الحركة الوطنية بجمهورها، والتي استُغلّت على أوسع نطاق في سبيل ضرب الحركة الوطنية في مشروعها الوطني اللاطائفي وفي سياستها التحرّرية العامة، على حدّ سواء! نقول ذلك دون أن ننسى أن الحركة الوطنية قد اعتمدت المرونة في الكثير من المراحل. وهي وافقت دائمًا على مشاريع التسويات بدءًا من «الوثيقة الدستورية» في شباط عام 1976 إلى اتفاق الطائف نفسه.
إنّ المضيّ في نقد أحداث تلك المرحلة ونتائجها يبقى أمرًا راهنًا ليس فقط لكي «تنذكر وما تنعاد»، لكن أيضًا، من أجل إعادة بناء المشروع الوطني في صيغته المطلوبة الجديدة!
* كاتب وسياسي لبناني