تعتري الخطاب السياسي التحليلي العربي ملابسات وشبهات وافتراضات متعدّدة. الخطاب عن «الوضع الإقليمي» هو مثال واحد. التطرّق إلى الوضع الإقليمي غالباً ما يخفي نيّات متعدّدة: إمّا لإخفاء أدوار، أو لعزو أدوار أو لتعزيز مفترض لأدوار
أسعد أبو خليل*
الإفراط في عزو أحداث وتطوّرات إلى الخارج سمة من سمات التحليل في العالم العربي، غالباً ما تتعرّض لسخرية المستشرقين والمُعلّقين الغربيّين. وعزو أوضاع إلى الخارج مفيد لكشف ضلوع الخارج في تطوّرات داخليّة محليّة، أو في تطوّرات يوحى لنا بأنّها داخليّة محليّة، مثل موضوع كاميرات المراقبة في المطار في بيروت وموضوع شبكة اتصالات حزب الله التي استفاق عليها إلياس المرّ ذات صباح نتيجة إلهام ووحي ربّاني أدّى إلى تسريب «معلومات» شديدة البراءة إلى صحيفة «النهار» الشديدة البراءة. لكن عزو تطوّرات إلى الخارج يخفي أحياناً نيّات خبيثة من أجل تقويض منطق مقاومة إسرائيل ومن أجل نشر منطق اليأس والتيئيس الذي عمدت الحكومات العربيّة (والاستخبارات الإسرائيلية) إلى نشره منذ هزيمة 1967 الشنيعة.
ورأينا في لبنان كمّاً هائلاً من الدعاية المدفوعة عن صراع إقليمي على لبنان. وهناك عدد من الكتب والمقالات الأجنبيّة المنشورة وكلّها تتحدّث عن صراع إقليمي إما على لبنان وإمّا على سوريا، أو على الحمّص. طبعاً، الصراع الإقليمي سمة من سمات السياسة في الشرق الأوسط منذ الحرب العالميّة الأولى، لا بل قبلها بقرن، لأن الدول الاستعماريّة لم توائم بين طموحاتها وجشعها ومصالح إسرائيل من جهة، وتوق شعوب المنطقة للاستقلال والتحرّر من ربقة السيطرة الأجنبيّة التي فرضت إسرائيل علينا. ويمكن تحليل السياسة في المشرق العربي على أساس الصراع الإقليمي، لكن ذلك يحتاج إلى قدر من الاستعانة بتحليل يأخذ في الاعتبار قدرة الشعوب على رفض مشاريع هيمنة أجنبيّة. من كان يظنّ أن اتفاق 17 أيّار (الذي قبله أمين الجميّل وروّج له رفيق الحريري بالنيابة عن الحكم الوهّابي في السعوديّة) يمكن أن يزول بمفاعليه كلّها بناءً على إرادة شعبيّة صلبة وإن كان هناك دعم إقليمي لرافضي الاتفاق المشؤوم؟

خطاب 14 آذار مُستقى من خطاب بشير الجميّل وخطورته تكمن في تبرئته إسرائيل
لكن هناك ما هو أخطر في الحديث عن الوضع الإقليمي. هناك نيّة بارزة في الإعلام السعودي (والحريري الذيلي) من أجل طمس الدور الإسرائيلي، أو التخفيف من وطأته في حياتنا. عمل الإعلام السعودي، وخصوصاً بعد 2001، على الإكثار من الحديث عن الصراع الإقليمي، ولكن بتشديد لا لبس فيه على الدور الإيراني وذلك من أجل: 1) زرع فكرة أن إسرائيل ليست فريدة في شرورها وحروبها وتدخّلاتها، وأن هناك خطراً إقليميّاً داهماً لا يقلّ خطراً وشرّاً عن إسرائيل. 2) أكثر من ذلك، قرّرت الحكومة السعوديّة والإعلام النفطي التابع (والإعلام المُقاول الذيلي) أن تزرع في أذهان الرأي العام خوفاً ورهاباً من الدور الإيراني في العالم العربي. وقد نجحت الدعاية السعوديّة في ضخ سموم الفتنة المذهبيّة كي تنسجم مع المبالغة في تصوير الدور الإيراني. لا تجد جريدة «الشرق الأوسط» غضاضة مثلاً في نشر خبر على صفحتها الأولى عن «تسرّب» عشرة مقاتلين من إيران إلى العراق، فيما هي لا تلاحظ وجود عشرات الآلاف من قوات الاحتلال الأميركي.
على الأقل، الإفراط في الحديث عن صراع إقليمي في لبنان يؤدّي بالضرورة إلى اصطناع نوع من التوازن بين تدخّل ما إسرائيلي وآخر إيراني. أي إن إيران وإسرائيل تتدخّلان في مصائر الشعوب وما على الشعوب إلا رفض التدخّل الإيراني فقط. هذا النمط التحليلي بارز في فرمانات الأمانة العامّة لفارس سعيد ونصير الأسعد وسمير فرنجيّة في عاصمة الإشعاع. الجانب الآخر من الحديث عن التدخّل الإقليمي يهدف إلى التركيز على أعداء إسرائيل في المنطقة من أجل تعزيز منطق الهيمنة الأميركيّة الحامية للحروب الأميركيّة المُستمرّة. نزع فريق في لبنان لإقناع نفسه وإقناع الغير بأنه بريء من تهم إشعال الحروب واستمرارها. طفق حزب الكتائب اللبنانيّة على مرّ السنوات يروّج لتهمة مسؤوليّة «الفلسطيني» ـــــ وهذه الإشارة العنصريّة تتكرّر في الحديث عن «السريلانكي» و«السوري» وأحياناً «المِتْوالي» ـــــ في إشعال الحرب الأهليّة وفي استمرارها وفي جرّ أكبر عدد من المُتدخّلين الخارجيّين لخدمة إسرائيل والمشروع الفينيقي في لبنان.
لكن هناك مغالطة أخرى في الحديث عن الوضع الإقليمي في الشرق الأوسط. فهناك من يظن، أو يحاول أن يروّج، لفكرة أن المنطقة العربيّة تشكّل كائناً مستقلاً بذاته، وكأن سلطة القرار موجودة في أيدي حكّام وسلاطين معيّنين من الخارج الذي يفصل في مسألة اختيار الأبناء للخلافة. وتعزيز وهم سلطة القرار المحلّي يؤدّي بالمحصّلة إلى: 1) تبرئة الولايات المتحدة من مسؤوليّاتها الجسام في تركيب النظام القمعي العربي وفي استمراره (تكبّدت الولايات المتحدة نفقات أكثر من ستين مليار دولار منذ اتفاقيّة كامب ديفيد كي تحمي نظام التطبيع المصري)، وفي إشعال الحروب والفتن في المنطقة العربيّة، من الصومال إلى اليمن مروراً بلبنان. 2) التقليل من حجم التعاون العضوي بين الولايات المتحدة وإسرائيل ـــــ بصرف النظر عن هويّة الإدارة الأميركيّة المُتنقّلة بين الحزبيْن ـــــ وهذا يُضفي حجاباً على النيات والأدوار الصهيونيّة في مجريات الأحداث.
نستطيع أن نتبيّن خطورة الخطاب المُرتدي رداء التحليل الإقليمي في خطاب السجال اللبناني. ففريق آل سعود في لبنان (وآل الصباح حتى لا ننسى الدعم الكويتي للقوّات اللبنانيّة) يُكثر من الحديث عن كون لبنان ساحة. وهذا الخطاب هو خطاب بشير الجميّل، السيّئ الذكر، عندما كان يتحدّث عن تحرير لبنان من «الغرباء» فيما كان يتلقّى الأوامر الصغيرة والكبيرة من ضباط إسرائيليّين صغار. أي إن كلامه عن تحرير لبنان لم يكن إلا كلاماً مُرمّزاً عن فرض سيطرة العدو الإسرائيلي على كلّ لبنان. وخطاب 14 آذار مُستقى من خطب أسوأ لبناني من ناحية التغطية على أدوار خارجيّة عبر التركيز على جهة خارجيّة واحدة. وتُكثر 14 آذار في الحديث عن «عدم جعل لبنان ساحة». وخطورة هذا الخطاب تنبع من تبرئته إسرائيل، أو في الحدّ من خطورة الأدوار الإسرائيليّة في لبنان. يريد قادة 14 آذار من اللبنانيّين واللبنانيّات أن يظنّوا أنه من الممكن عزل لبنان عن محيطه. وهذا الكلام يعني شيئاً خطيراً: أن لبنان اختار من تلقائه أن تجتاحه إسرائيل وتحتلّ أراضيه وتعبث بشعبه. ومقولة اختيار لبنان لعدوان إسرائيل ـــــ أو تبرئة إسرائيل من العدوان ـــــ تنطوي على مقولة استدراج إسرائيل، أو إعطاء الذريعة لإسرائيل، بلغة فريق آل سعود في لبنان. أي إن إسرائيل كان يمكن أن تترك لبنان وشأنه لو أن المقاومة الفلسطينيّة أو حزب الله في ما بعد، لم تستفزّ إسرائيل. ولم يجد بعض قادة 14 آذار غضاضة أثناء سنوات «التخلّي» في التغنّي باتفاقيّة الهدنة بين لبنان وإسرائيل وكأن إسرائيل لم تعتدِ على لبنان أثناء السنوات التي سبقت انطلاقة المقاومة الفلسطينيّة.
والتحدّث عن عزل لبنان عن شؤون المنطقة يعني في ما يعنيه: 1) التوصّل إلى سلام بين لبنان وإسرائيل كما فعلت مصر وإسرائيل. أي إن العزل عن شؤون المنطقة لا يستقيم إلا بالتوصّل إلى اتفاق مهين مع إسرائيل. بالفعل، لقد عزلت مصر نفسها عن الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي عندما وقفت متفرّجة ـــــ إذا لم يكن مُصفّقة ـــــ لمشاهد اجتياحات إسرائيليّة لأراض عربيّة عبر السنوات، كما أن الخناق الذي تفرضه على غزة هو جزء من العزل عن شؤون المنطقة. لبنان هو أيضاً عزل نفسه عن شؤون المنطقة وفق عقيدة فؤاد شهاب العسكريّة السريّة التي فرضت تفاهماً ضمنيّاً (وأحياناً سريّاً) مع إسرائيل على أساس نفض لبنان يديه من القضيّة الفلسطينيّة ومن أعباء مهمّات تحرير فلسطين التي حمّلتها الدول العربيّة أكثر بكثير من لبنان، وإن فشلت فشلاً ذريعاً في المهمّات. إن عزل لبنان تمّ رسميّاً في اتفاقيّة 17 أيّار التي يريدون أن ننساها وأن نمحو مدلولاتها ومضاعفاتها. 2) من الملاحظ أن الفريق الذي يروّج لهذه المقولة هو الفريق الذي كان يرتبط بعلاقة تحالفيّة ـــــ ذيليّة طبعاً ـــــ مع إسرائيل، وإن أصبح آل الجميّل وسمير جعجع من الواعظين في شؤون القضيّة الفلسطينيّة. إن فريق الحريري لم يتحالف جهاراً بعد مع إسرائيل، لكن حكم السنيورة كان من أكثر الحكومات في تاريخ لبنان ارتباطاً بالصهاينة في الغرب (لكن فؤاد السنيورة لا يحتاج إلى فحص دم لأنه مشى في تظاهرة أو اثنتيْن ضد أميركا قبل نحو أربعين سنة أو أكثر. وهو يؤمن بالنضال الحضاري).
3) إن شعار ضرورة عدم تحويل لبنان إلى ساحة يبرّئ مرّة أخرى إسرائيل ويجعل منها الضحيّة لا المعتدية. يريد أصحاب الشعار منّا أن نقبل أن المقاومة الفلسطينيّة وحزب الله في ما بعد استدرجا واستفزّا واعتديا على الحمل الإسرائيلي الوديع وذلك لأهداف إقليميّة، أي أهداف مُضرّة بلبنان لأن لبنان لا علاقة له بالصراع مع الحمل الإسرائيلي الذي لا يريد إلا السلام والسكينة فقط. 4) يهدف فريق المطالبة بعزل لبنان عن محيطه ـــــ والعزل يتطلّب نقل لبنان بالرافعة من هذه المنطقة في الشرق الأوسط إلى منطقة مجاورة لجبال الألب، وذلك من أجل أن يشعر الفينيقي اللبناني الذي يظنّ أنه أوروبي جينيّاً، بالدفء والطمأنينة ـــــ إلى تحويل أي صراع مع إسرائيل مهما كانت أسبابه إلى فرصة للتأجيج والتحريض ضد أعداء إسرائيل في لبنان. أي إن العداء لإسرائيل مضرّ للبنان بنظر هؤلاء السنيوريّين الذين يعاجلون إلى القول «إن إسرائيل عدو» قبل أن يعاجلوا إلى المطالبة عبر شعارات مختلفة بضرورة نزع سلاح المقاومة.
ثم هناك الأمر الأساسي عن علاقة الوضع الإقليمي بالوضع العالمي. لم يكن وضعنا الإقليمي يوماً مستقلاً عن الوضع الدولي بسبب ارتباط مصالح القوى الغربيّة (والاتحاد السوفياتي في مرحلة ما) بالتطوّرات في الشرق الأوسط. كما أن العدو الصهيوني لم يفتقر إلى راع غربي منذ تأسيس الحركة الصهيونيّة المشؤومة. الصراع الدولي كان هو الأساس وكان هو المُقرّر، وإن فشل العديد من مخطّطاته. الصراع تركّز تاريخيّاً على: 1) وراثة الإمبراطوريّة العثمانيّة. 2) وراثة الإمبراطوريّة البريطانيّة، وكان الدور الأميركي في حرب السويس صورة عن ذلك. 3) الحرب الباردة. 4) وأخيراً، حروب الإمبراطوريّة الأميركيّة التي لا تنتهي والتي تتطلّب إعادة تشكيل للقوى الحاكمة في كل بلد في العالم.
فالوضع الإقليمي خاضع لإرادة الخارج أكثر من خضوعه لإرادة الداخل. أي إن وكلاء الراعي الخارجي هم أقلّ بكثير من صانعي قرار. لا يُسمح لأمثال إياد علاوي وفؤاد السنيورة ونوري المالكي بأكثر من وضع لمسة محليّة لما يتلقّون من أوامر أميركيّة. المناقشة مسموحة لكن بحدود تضعها أميركا لوكلائها. يحدث أن يحاول وكيل أو دمية، مثل حامد قرضاي، أن يتمرّد، لكن ذلك نادر وينتج من التعبير الأميركي عن عدم رضى على أداء الوكيل المُنصّب.
هذا لا ينفي قدرة صنع القرار والتقرير وحتى صنع التاريخ عن القوى المحليّة. فقوى الرفض والمقاومة في المنطقة العربيّة كانت تعبيراً عن إرادة رفض محلّي. لكن تلك القوى، مثل جبهة الرفض الشهيرة في السبعينيات التي قامت من أجل تقويض كل مساعي الحلّ السلمي مع العدوّ الإسرائيلي، انقصت من قدرتها على التأثير عبر ارتباطها بأنظمة بعيدة عن الاستقلاليّة، مثل العراق وليبيا والجزائر أو حتى اليمن الجنوبي. كما أن قوى الرفض والمقاومة لم تصطدم بالقوى الدوليّة عن سابق قصد وتصميم، بل إن القوى العالميّة هي التي استفزّت تلك القوى، كما فعلت أميركا عندما جاءت مُحتلّة إلى لبنان عام 1982 لدعم نظام أمين الجميّل الفظيع.
وهناك عدد من الملاحظات الواجب تسجيلها عن القوى الإقليميّة في هذا الصدد. الدور التركي يخضع للكثير من التحليل هذه الأيام، كما أن التعطّش العربي لموقف عزّة وكرامة ـــــ وهذا شيء لا طاقة للأنظمة العربيّة على اتخاذه بسبب فقدانها أي نوع من الشرعيّة والاستقلاليّة ـــــ يُضفي على الموقف التركي بطولات لا رغبة لتركيا في اكتسابها. العلاقات التركيّة ـــــ الإسرائيليّة تدخل في صلب العقيدة العسكريّة للمؤسّسة العسكريّة ـــــ الاستخباراتيّة، كما أن عضويّة حلف الناتو ترتّب على تركيا أعباءً لا تعود علينا بأي فائدة. والطموحات التركيّة الإقليميّة حقيقيّة، والدولة تستفيد من الغياب الفاعل لأي دور عربي بمواجهة إسرائيل كي تكسب عطفاً وتأييداً وحماسةً عربيّة على المستوى الشعبي (وحتى على المستوى الرسمي، وفي هذا دليل خنوع ما بعده خنوع، مثل أن يقبّل عمرو موسى ـــــ المهرّج الرسمي للجامعة العربيّة ـــــ أردوغان على وجنتيه بعدما قرّع بيريز فيما هو جلس في مقعده مُحترماً ممثّلي الكيان الغاصب). ولا ننسى أن تركيا دخلت باب الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي من خلال التوسّط بين سوريا وإسرائيل، بطلب إسرائيلي وأميركي في البداية، مع أن النظام السوري استساغ ويستسيغ هذه الوساطة ويطالب بالمزيد منها.
ولكن في الحديث عن الوضع الإقليمي، يكثر الحديث عن المحاور. هل هناك محاور حقّاً؟ هل هناك مثلاً محور سوري ـــــ إيراني ـــــ قطري؟ يمكن الملاحظة أن الدول الثلاث تتفق على ما يلي: 1) التشكيك بدرجات متفاوتة في النيّات الأميركيّة وإن سعت كلٌّ من سوريا وقطر لكسب تقرّب مع أميركا في عهد بوش وأوباما. 2) دعم متفاوت الدرجة وبالسرّ لحركات المقاومة في المنطقة. 3) رفض متفاوت في الحدّة للدور السعودي في المنطقة، مع أن سوريا تتجنّب إغضاب الحكم السعودي كما أن قطر عملت للمصالحة مع الملك السعودي. 4) العمل المتدرّج في التنسيق من أجل تقويض غير مُعلن لموقف المحور المُعارض.
لكن إمكان إدراج العلاقة بين الدول الثلاث في إطار محور إقليمي يصطدم بواقعة الاختلال بين الدول المذكورة. فهي تختلف في أكثر من ملف. هي تختلف في: 1) طبيعة النظام المنشود، وأسس الحكم تختلف في الدول الثلاث بين الملكيّة والجمهوريّة ودرجات القمع والتسلّط المفروض. 2) العلاقة مع أميركا، إذ إن قطر لا تزال «تستضيف» قواعد عسكريّة أميركيّة وتتمتّع بعلاقات حسنة مع أميركا، فيما تسعى سوريا إلى تحسين علاقاتها. 3) تختلف الدول الثلاث في رؤيتها لدور الدين. فإيران تتبع نظام ولاية الفقيه فيما يسود نظام علماني (في إعلانه) سوريا، وقطر تتبع وهابيّة غير «بن بازيّة». 4) لا تتفق الدول الثلاث في مسألة أفق المقاومة، إذ إن سوريا وقطر وافقتا على مشروع توماس فريدمان للسلام مع إسرائيل، فيما تنتهج إيران موقفاً غير واضح في رؤيتها للمشروع المذكور. ولكن هناك ما هو أكثر وضوحاً. فالمحور ـــــ لو كانت العلاقة بين الدول الثلاث تصل إلى مصاف المحور ـــــ يفتقر إلى برنامج عمل أو تصوّر واضح للتعاطي مع التحديّات الإقليميّة والتهديدات التي طالت الأنظمة الثلاثة، وخصوصاً في عهد بوش. لم تغادر موقع الدفاع عن النفس وتحسين وضع الموقع من دون اتخاذ قرار المواجهة، لا في لبنان ولا في فلسطين ولا في العراق وأفغانستان، وإن اتبعت سوريا وإيران سياسة العصا والجزرة مع أميركا، فيما كانت العصا تهوي على النظاميْن في عهد بوش.

شعار عدم تحويل لبنان إلى ساحة يجعل من إسرائيل الضحيّة لا المعتدية
لكن، في المقابل، هل يمكن الحديث عن محور سعودي ـــــ أميركي ـــــ إسرائيلي؟ من المؤكد أن هناك تحالفاً قويّاً في المنطقة العربيّة لكنه ليس محوراً إقليمياً بل هو عالمي. أي إن الولايات المتحدة هي التي تدير الدفّة بحزم واحتكار مع إصرارها على توكيل وكلائها وحلفائها (تنطبق على الأنظمة العربيّة صفة الوكيل التابع فيما تنطبق على إسرائيل صفة الحليف. لا يتمتّع نظام عربي واحد بصفة وحظوة الحليف مع أميركا) مهمات وأدواراً وحروباً محدّدة. إن حرب تموز كانت حرباً أميركيّة، أكثر ممّا كانت حرباً إسرائيليّة. كانت إسرائيل تفضّل ربّما التقليل من خسائرها ومن إذلالها على يد المقاومة اللبنانيّة، إلا أن إدارة بوش كانت ترتئي بالاتفاق مع وكلائها الذيليّين في لبنان أن تذهب إسرائيل في الحرب إلى النهاية طمعاً بإنهاء ظاهرة حزب الله. أي إن هناك تحالفاً دولياً تقوده الولايات المتحدة ويعتمد في كل بلد في العالم، وفي كل كيان لم يصل إلى مصاف الدولة، على وكلاء وعلى ميليشيات لتدبير الأمور بالتنسيق مع القوات الأميركيّة المنتشرة حول العالم (في أكثر من 130 دولة، لكنهم في لبنان فقط للإشراف على تدريب القوات الأمنيّة والعسكريّة على مقاومة إسرائيل ـــــ هكذا يا محسنين ومحسنات).
أنهت الولايات المتحدة في عصر ما بعد الحرب الباردة ظاهرة النظام العربي الرسمي. بدّدت النظام العربي رسميّاًً بعد 11 أيلول لأن الولايات المتحدة لم تعد تستسيغ هامش المناورة الصغير وهامش الرياء الذي كانت الأنظمة العربيّة تستعين بهما بذريعة حماية العروش. المصالح الأميركيّة لم تعد تتحمّل إعطاء هوامش مناورة، وفُرض على الدول العربيّة نظام جديد تقوم فيه الأنظمة العربيّة بالتنافس من أجل إسعاد الخاطر الأميركي. هكذا برز أولاد الشيخ زايد الذين يهرعون لتمويل العمليّات السريّة الأميركيّة، وذلك لتدعيم موقف دولة الإمارات إزاء دول الخليج الأخرى. أصبحت ترّهات الشيخ زايد القوميّة سراباً لا تعترف به إلا فرقة كركلّا مقابل دعم سخي.
إن الإقليم يمكن أن يبرز بإرادة بنيه. وهو يندثر من حيث التأثير والقرار بإرادة الأنظمة العربيّة المتنافسة على إرضاء إسرائيل. لكن خيار دعم القرار المحليّ، ودعم حق الشعوب في تقرير مصيرها، يتطلّب فصلاً تامّاً عن إرادة الأنظمة، كما أنه يتطلّب تضاداً بين مشروع المقاومة والمشروعيْن المُتصارعيْن. هذا التضاد لم يبرز بعد.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)