Strong>نزار صاغية *بتاريخ 12/5/2010، أصدر القاضي المنفرد الجزائي في بيروت حكماً بإدانة مدمن سابق بجرم استعمال مادة الهيرويين، خلافاً لمطالبه الآيلة إلى وقف التعقبات ضده على خلفية خضوعه للعلاج وثبوت شفائه. وقد كان قانون المخدرات الصادر في 1998 قد أوجد وضعاً استثنائياً للمدمن، بحيث تتوقف التعقبات ضده إذا أذعن لإجراءات العلاج وثابر عليه حتى تمام شفائه. ومن هذه الزاوية، يقدم هذا الحكم إضاءة هامة على إشكالية تطبيق قانون المخدرات 1998، وتحديداً مبدأ «علاج المدمن بديلاً من الملاحقة»: ففيما أن معظم الحالات التي تعرض على القضاء، حالات مدمنين لا يتسنى لهم اللجوء إلى العلاج أو يحاكمون قبل إتمام إجراءاته، فإن المدعى عليه في القضية الحاضرة قد قدم إفادة من مركز متخصص «أم النور» لعلاج الإدمان تؤكد ليس فقط خضوعه لعلاج طويل الأمد فيه بل أيضا شفاءه، مما يعزز حكماً مشروعية مطالبته بما وعد المشرع به في حالات مماثلة أي وقف التعقبات. كما يجدر الذكر أنه أبرز، دعماً لمطالبه، قراراً صادراً عن محكمة التمييز في 21/2/2007 بوقف التعقبات بوجه مدمن على أساس إفادة مماثلة صادرة عن مركز متخصص كندي.
ورداً على هذه الأسئلة، نحا الحكم منحى متحفظاً: فوقف التعقبات نهائياً يفترض، ليس فقط إثبات العلاج إثباتاً مطلقاً، بل إثباته من خلال آليات وإجراءات حددها القانون بذاتها، وأبرزها إحالة المدمن إلى لجنة إدارية (لجنة الإدمان) تتولى، هي، مهمة الإشراف على إجراءات العلاج والتثبت منها، وهذا ما لم يحصل. فالمشرّع أراد، وفق الحكم، إتمام إجراءات العلاج من خلال هذه اللجنة حصراً، وأن النصوص الجزائية ذات الطابع الآمر تفرض التقيد بها. وتبعاً لذلك، ليس على القاضي أو له أن يلتفت إلى «نية المشرع» للبحث عن آليات أخرى لإعمال مبدأ العلاج بديلاً من الملاحقة أو أن يرتب أي نتيجة على تقاعس الإدارة في تفعيل اللجنة أو اتخاذ أي من التدابير الإدارية التي حددها القانون لتطبيقه، بل يتعين عليه إدانة المدمن بمعزل عن استعداده للعلاج أو التزامه به. وبكلام آخر أكثر تبسيطاً، بدا القاضي وكأنه يقول رداً على حجج الدفاع: «عذراً، لكني مكره على معاقبة من ثبت إدمانه رغم شفائه، لا لسبب إلا لأن الإدارة لم تقم حتى اللحظة، أي بعد 12 سنة من نفاذ القانون، بمسؤولياتها لجهة وضع الآليات لحسن تنفيذه». وإذا أخذ القاضي لجوء المدعى عليه إلى العلاج ضمناً بعين الاعتبار لتخفيف العقوبة إلى غرامة فقط (خمسمئة ألف ليرة لبنانية)، فإن إدانته بجرم استعمال المخدر أدت بالمقابل إلى إثقال سجله العدلي على نحو من شأنه أن يعوّق حسن اندماجه الاجتماعي، ولا سيما في مجال العمل.
ومن هنا، فإن النتيجة التي توصل إليها الحكم، تستدعي ملاحظات عدة:
الملاحظة الأولى، أن الإشكالية التي يطرحها تعني ليس فقط المدمنين الذين تسنى لهم إتمام العلاج (وهم قلة)، بل أيضا المدمنين الذين أعلنوا رغبتهم أو يمكن حثهم أو إقناعهم بالخضوع للعلاج، من دون أن تتسنى لهم الإمكانيات المادية للقيام بذلك (وهم الأكثرية الغالبة للمدمنين الذين يمثلون أمام المحاكم). فكما أن العلاج ضمن الإطار المحدد قانوناً غير ممكن حالياً بسبب تخلف الإدارة عن تفعيل اللجنة، فإن الفئة الثانية من المدمنين تبقى عموماً عاجزة عن متابعة أي علاج بسبب تخلف الإدارة عن تنفيذ قانون المخدرات لجهة ضمان مجانيته، وهو بالمناسبة المعوق الأول أمام اللجنة للقيام بمهماتها التي هي خاصة إحالة مدمن إلى مركز علاج معتمد ومواكبة علاجه فيه. وهكذا، فإن اللجنة، وقد عُيّن أعضاؤها للمرة الأولى في 2003، لم تدرس حتى اللحظة أي ملف. وعليه، فإن السؤال الذي تناوله الحكم: «ما هي وضعية المدمن الذي أتم علاجه خارج الإطار المحدد قانوناً لتخلف الإدارة عن تفعيل اللجنة، وتحديداً هل هو يستفيد في هذه الحالة من وقف التعقبات عملاً بمبدأ «العلاج بديلاً من الملاحقة»؟ يستدعي بالضرورة سؤالاً آخر لا يقل أهمية، أقله لأنه يعني القسم الأكبر من المدمنين مفاده: «ما هي وضعية المدمن الذي تعهد بالعلاج، من دون أن يتسنى له ذلك، بسبب تخلف الإدارة عن ضمان مجانيته، وتالياً بسبب اعتداء الإدارة هنا أيضا على حقوقه؟». فإذا بدت الحالتان مختلفتين من حيث الحالة النفسية الراهنة للمدعى عليه الذي يطالب بإعفائه من التعقبات، فإنهما تتشابهان تماماً من حيث إن المدمن مهدد في كلتيهما، وفق مفهوم الحكم، بعدّه في حال خلاف مع القانون، رغم أن الإدارة هي السباقة إلى مخالفة القانون بحقه، وهي التي تسبب من خلال هذه المخالفة في جعله كذلك. وعدا أن جواب الحكم على هذه الإشكالية كما سبق بيانه يؤدي إلى نتيجة عبثية، مفادها تحميل المواطن وزر مخالفات الإدارة بل أحياناً وزر اعتدائها على حقوقه خلافاً لمبدأ شخصانية العقوبة، فإنه يجعل هذه الأخيرة، وهي المسؤول الأول نظرياً عن تأمين الظروف الملائمة لضمان احترام المواطن للقانون، في موقع المسبب الرئيسي لإبقائه في حال خلاف معه.
الملاحظة الثانية: أن توجه الحكم يبدو مناقضاً لغايات قانون 1998 في مجال الإدمان على المواد المخدرة.
فقد رأى هذا القانون بوضوح ضرورة ماسة في وضع المدمن على سكة العلاج بدلاً من معاقبته. وقد رأى المشرع تيمناً بقوانين عدة، في هذا التوجه الطريقة الأنسب للرد على إشكالية الإدمان. ومن أهم الأسباب المبررة لذلك: أولاً، أن علاج المدمن هو الطريقة الأكثر فعالية في إعادة إصلاحه ودمجه ويقتضي تالياً مضاعفة المحفزات لوضعه على سكة العلاج، ومن أهمها إلزام الدولة بضمان مجانيته ووقف التعقبات بوجهه في حال تمام علاجه، فيما يكون التلويح بالعقاب مجرد سلاح لإرغامه على الإذعان له. وثانياً، ان المدمن هو في حال ارتهان للمادة المخدرة، يصعب عليه جداً مقاومة استعمالها، وتالياً، فإن مساءلته على أساس استعمال المخدر هي بمثابة «مساءلة المجنون على جنونه»، فيما يبقى من الممكن مساءلته على أساس رفض العلاج حاضراً أو مستقبلاً، ما يُعدّ بالمقابل أمراً إرادياً.
تجريم المدمن لا يحصل على أساس الماضي (استعمال المخدر)، بل على أساس المستقبلً (إرادته بالعلاج)
ومن هذا المنطلق، أصبح فعل الإدمان من حيث المبدأ في منطقة وسطى بين التجريم وعدمه: فتجريم المدمن لا يحصل على أساس أفعاله التي حصلت في الماضي (استعمال المخدر)، بل بالدرجة الأولى على أساس نواياه وأفعاله مستقبلاً (إرادته بالعلاج ومثابرته عليه حتى شفائه وهو عمل إرادي يسوّغ معاقبته). وتالياً، وبخلاف سائر الجرائم كالسرقة والاحتيال، حيث تجب العقوبة فور ثبوت الجرم والنية الجرمية، دون أن يكون لإرادة المدمن ونواياه أو أفعاله المستقبلية أي أثر على إدانته، فإن تصرفات المدمن المستقبلية هي التي تحدد وجهة التعامل معه. ومن هذا المنطلق، يظهر أن المشرّع اللبناني استخدم في هذا المجال سلاح التجريم والعقاب ليس لإدانة فعل الإدمان، بل فقط كوسيلة ضغط، كعصا، لدفع المدمن إلى سلوك سكة العلاج، بهدف تحريره من الارتهان للمادة المخدرة، وهي عصا يأمل المشرع أن تنتج مفاعيلها من دون أن يضطر القاضي أبداً إلى استعمالها. وتبعاً لذلك، يبدو طبيعياً أن ينحصر التجريم في الحالات التي يعارض فيها المدمن إجراءات العلاج أو ينقطع عنها وذلك من باب الضغط عليه، وأن يسقط بالمقابل كلما عبر المدمن عن إرادة واضحة وصادقة في الإذعان للعلاج، من دون أن يحمل مسؤولية عجزه عن ذلك أو على الأقل عجزه عن الالتزام بالإطار المؤسساتي المحدد قانوناً لأسباب خارجة عن إرادته. ففي هذه الحالات كلها، وتبعاً لإذعان المدمن لمطالب المشرع، تزول حكماً مبررات اللجوء إلى وسائل الضغط الهادفة إلى تحقيقها.
وعليه، وفي ظل وضوح خلفيات القانون، فإن مبدأ العلاج بديلاً من الملاحقة، يصبح مكرساً وضعياً، وتكون الآليات الموضوعة لتطبيقه (التأكد من جدية العلاج ونجاحه) هي مجرد وسائل غير جوهرية، يمكن مبدئياً الاستعاضة عنها بآليات أخرى إذا تقاعست الإدارة عن وضعها موضع التنفيذ. وهذا ما أكدته محكمة التمييز في قرارها المذكور أعلاه والذي يبقى للأسف معزولاً. فبعدما تثبتت من مبدأ «العلاج بديلاً من الملاحقة» ومن عدم تأليف لجنة الإدمان، رأت المحكمة أنه «ليس ما يمنع من الأخذ بإفادات صادرة عن مصحات متخصصة إذا ثبت شفاء المدمن»، لتنتهي إلى وقف التعقبات بحق المميز نظراً لشفائه من الإدمان. لا بل إن بعض القضاة، حاولوا من خلال ما تتيحه لهم أصول المحاكمات الجزائية، سد بعض الثّغر الناجمة عن تقاعس الإدارة في هذا المجال، كأن يسعوا إلى محاورة المدمن لحثه على سلوك سكة العلاج، أو يرجئوا محاكمته حتى يتسنى له إثبات خضوعه للعلاج أو انقطاعه عن تعاطي المادة المخدرة بموجب تقارير أو فحوصات دورية، أو يمنحوه وقف تنفيذ للعقوبة مشروطاً بمتابعة العلاج (عن هذه التجربة، يراجع: سكون، حقوق المدمن: نحو انفتاح أكبر، 2009). لكن هذه التجارب تبقى للأسف منقوصة في ظل نقص إمكانات العلاج المتاحة وتردد القضاة في وقف التعقبات، وضمناً للأسباب نفسها المبينة في الحكم موضوع هذا المقال.
الملاحظة الثالثة: وإذا تجاوزنا كل ما سبق، يبقى أن توجه الحكم موضوع المقال يبقى مرتبطاً إلى حد كبير بفهم القاضي لدوره الاجتماعي.
ولإدراك ذلك، يكفي مقارنة الحكم بالقرار الصادر عن محكمة التمييز المشار إليه أعلاه: فهل القاضي خادم للقانون، يبقى مقيداً بالشكليات المنصوص عليها في القانون، بمعزل عما قد تؤدي إليه من نتائج عبثية، كما أوحت به حيثيات الحكم، أم أن له دور ضابط للقانون وموجه له، فيتحرى عن الحلول التي يراها الأكثر ملاءمة لضمان احترام غايات المشرع، ويستخدم ما لديه من إمكانات لهذه الغاية، من دون الخلط بين ما هو غاية واضحة للقانون يلزم احترامها وما هو وسيلة بالإمكان استبدالها بوسائل بديلة من دون المس بجوهره؟ وهذا ما نقرأه في القرار التمييزي، وإلى حد ما في تجارب عدد من القضاة أشرنا إليها أعلاه لجهة حث المدمن على متابعة العلاج بواسطة أصول المحاكمات الجزائية، حتى ولو بقيت هذه التجارب منقوصة بحاجة إلى تطوير.
وختاماً، وفي السياق نفسه، أليس بوسع القاضي الناظر في قضايا الإدمان، أن يضمّن أحكامه تقريصاً للإدارة بوجوب القيام بموجباتها في هذا الصدد؟ فمهما يكن توجه الحكم (سواء كان إدانة أو وقف تعقبات)، حبذا لو يخرج القاضي قليلاً عن تحفظه إزاء الإدارة العامة، حبذا لو يعبر عن المأزق الضميري الذي يجد نفسه فيه بسبب تخلف الإدارة عن تنفيذ موجباتها المنصوص عليها في قانون المخدرات، على نحو يجعله غالباً مخيّراً بين أمرين كلاهما مناف لروحية القانون: معاقبة المدمن بسبب تقاعس الإدارة أو أقله لأسباب خارجة عن إرادته، أو وقف التعقبات ضده من دون تمكنه من متابعة أي علاج بسبب تخلف الإدارة عن ضمان مجانيته، أو أقله من دون التثبت من جدية العلاج أو نجاحه لنقص الخبرات العلمية والتقنية التي يمكنه اللجوء إليها. وعلى ضوء هذا التمني، ربما تسمح إعادة قراءة الحكم (ما بين أسطره) بتفصيل إضافي: فأن يضع القاضي المدمن السابق في خانة الإجرام، لأن الإدارة تخلفت عن تفعيل اللجنة، إنما يمثّل بالدرجة الأولى رسالة شديدة البلاغة موجهة إلى الإدارة، ومعها الرأي العام، بأن ثمة مواطناً يحمّل وزر اعتدائها على حقوقه ويعاقب. وهو طبعاً، أمر لا يحتمل!
بقي أن نأمل التوفيق للجنة الإدمان في هيئتها الجديدة.
* محامٍ وباحث في القانون