حسان الزينتنشط القوى التي ارتكبت ما جرى في شوارع برج أبي حيدر وبعض الأحياء المحيطة في بيروت لتمييع إمكانيات فهم ما حصل ومحاصرة أي محاولة لبلورة الصورة الحقيقية، سواء أكانت تلك الصورة لنقد ما جرى أم لاحتوائه. والحق يُقال، إن تلك القوى شاطرة في ذلك، نظراً إلى تجربتها وتركيبتها الأمنية والأيديولوجيّة والدعائية وارتباطاتها الخارجيّة.
لا تفعل القوى تلك ذلك من باب الخجل، بل بدوافع سياسيّة وأمنيّة. لهذا، لا تراها تولي أهمية للبعد الأخلاقي أو للمواطنين والقانون. كأن لا هذا ولا ذاك موجود ويستحق الاعتذار والتفسير والاحترام. وتصبُّ تلك القوى اهتمامها في كيفية الإمساك بما يُقال عن «الحادث»، من خلال ضخّ تسميات له، أبرزها «حادث فردي»، ومن خلال تعقيم الموضوع وإدخاله في إطار «المعالجة الأمنية» ودهاليزها وإلى كواليس السياسة التي باتت تُشغل في عقل أمني.
الخطير في الأمر ليس اللعب في الوعي إلى حدود التزوير وحسب، بل جعل البنى العسكرية والأمنية لتلك القوى وغيرها، أمراً واقعاً تتعامل معه المؤسسات العسكرية والأمنية الرسمية كجهات «عادية» وتنسق معها ولا تستطيع دخول حيزها ومساحاتها وأماكنها. والأخطر من ذلك، هو جعل «المعالجات الأمنية» أمراً رسمياً «عادياً» ومعترفاً به ومقبولاً في الوعي المواطني والخطاب السياسي على حد سواء. وقد «شاهد» المواطنون ويلمسون الآن اكتفاء الجيش بدور الحكم أثناء «مباراة» برج أبي حيدر. وهذا مخيف بل مرعب ويدفع إلى اليأس وعدم الثقة في البلد ومؤسّساته المعنية بحماية البلاد والمواطنين.
نعم، لا مفر من القول، إن جهة واحدة في لبنان تفعل هذا، هي المعارضة السابقة، أو حلفاء سوريا وإيران (سواء اختلفوا أو اتفقوا). باختصار هذه الجهة هي خصوم 14 آذار. 14 آذار في هذا الأمر، حتى الساعة، بريئة، ولا حاجة ولا مبرر الآن إلى التذكير بأن القوات اللبنانية جهاز أمني، أو أن تيّار المستقبل ارتكب في الماضي، قبل أيار 2008، الخطيئة العسكرية المليشيوية. هذا، الآن، كذب ومشاركة في تزوير الواقع والوعي. يخلص المرء إلى هذا، من دون أي وهم بأن العقل والسلوك العسكريين الأمنيين ليسا عامّين على الجميع، أو أن قوى 14 آذار، ولاسيما تيّار «المستقبل»، تعلّمت من الدرس وهي الآن تترفّع عن اللذة المليشيوية وهوسها.
لا معصومين في لبنان، وقد شبع المواطنون من تضييع الكشتبان. اليوم، ثمة جهة «فاعلة» تجوّف الدولة. وفيما لا يُكشف عن عملاء لإسرائيل ومتهمين بارتكاب الخيانة الوطنية من جهة سياسيّة واحدة، بل من القوى الموزّعة على الضفّتين، فإن المسؤول عما حصل في برج أبي حيدر وعن منطقه وآثاره وأبعاده ومعانيه، هو جهة بعينها. جمعية المشاريع مسؤولة أمام القضاء والمواطنين لماذا تسلّحت وكيف؟
حزب الله مسؤول أيضاً كيف يتحوّل بعض سلاحه إلى الداخل والفعل ورد الفعل المليشيويين. والجيش والدولة مسؤولان عن التقاعس وسياسة التراضي وقبول الأمر الواقع. والقوى السياسية عامة مسؤولة عن تعميم هذه الثقافة وهذا السلوك. والمواطنون مسؤولون إذا استسلموا للأمر الواقع.
لا يهم هنا الرسائل السياسية، فليبلّوها ويشربوا ماءها، قبل الإفطار أو بعده. ولا تهم نتائج تحقيقات «المعالجات الأمنية»، وما إذا كان
حزب الله قد استُدرج إلى فخ أمني ومليشيوي ووجهت إليه رسالة سياسية، أو أن هناك «عناصر غير منضبطة» في جمعية الأحباش يطمحون إلى أداء دور «مليشيات السُنَّة». ما يهم هو ألا تغدو المعالجات الأمنية عرفاً مقبولاً. وهذا ما يبدو مرشّحاً للتكريس تحت عين المؤسسات العسكرية والأمنية، بل بمشاركتها، وتحت شعار الحوادث الفرديّة. كأن الحوادث الفردية تحصل في ملاعب خاصة، أو هي أمر مشروع، ولا تدل على قلوب ملآنة، والقوى السياسية بريئة من تربيتها وسلاحها. وكأن هذا زمن العناصر غير المنضبطة. ففي هذه الحال لبنان بحاجة إلى محكمة دولية في شأن الأمر الواقع وأبطاله الذين باتوا فوق القانون. وربما بحاجة إلى وصي أو راعٍ... وهذا ظاهر ويُمارس. ولعل «حادث» برج أبي حيدر يخدم هذا التوجه، رغم أن هناك قطباً مخفيّة كثيرة تحوكها القوى الأمنية ذات الوجوه الخيرية والسياسية التي تسرح وتمرح في الشوارع والأحياء والمتاجر والبيوت على أنواعها.