عصام العريان*الثاني: المشروع الإيراني القومي الذي نجح في البقاء طوال تلك الفترة رغم الحروب المدمّرة والحصار الغربي والخوف العربي الذي فشل في حصار التمدد الإيراني، سواء في اتباع المذهب الشيعي (بلبنان والعراق والخليج واليمن) أو في فلسطين التي لم تجد حركات المقاومة سنداً لها إلا في النظام الإيراني بعدما تخلت عنها النظم العربية بضغوط أميركية.
الثالث: المشروع التركي الذي برز حديثاً في السنوات القليلة الماضية بعد وصول حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان وعبد الله غول إلى السلطة، وبخاصة في إنقاذ الاقتصاد التركي ونجاحه الذي حقق نسبة نمو كبيرة في السنة الماضية وصلت إلى أكثر من 11%، وكان الثاني بعد الصين عالمياً ورسّخ أقدامه فى الحكم وأصبح الاقتصاد التركي رقماً عالمياً لعله الـ16 في الترتيب العالمي. ورسم وزير خارجيته الحالي أحمد داوود أوغلو سياسة خارجية جديدة نجحت في تصعيد عدد من المشاكل، وخاصة مع أرمينيا (إلى حد ما) ومع سوريا بدرجة كبيرة جداً ومع اليونان ولم يبقَ إلا مشكلة قبرص التركية.
هذا المشروع يريد أن يملأ الساحة الإقليمية في حال غياب بديل عربي، وله في ذلك مصالح قومية تركية في مقدمتها لتأهيل الانضمام للاتحاد الأوروبي، ويستثمر هنا تاريخاً طويلاً مع العالم العربي، ويستجلب عواطف الفلسطينيين ومشاعرهم بمواقف سياسية وإغاثية وخطابية، ويستثمر علاقاته الاقتصادية والعسكرية القوية السابقة مع العدو الصهيوني في محاولة للضغط على الحكومة اليمنية المتغطرسة، ويوظّف علاقاته القوية الاستراتيجية مع أميركا للحصول على أي ثمن للفلسطينيين يخفف من معاناة أهل غزة ويحقق بعض الآمال للسلطة الفلسطينية المحاصرة في رام الله والضفة الغربية.
والسؤال الملح: أين كان العرب طوال تلك العقود الثلاثة؟
والجواب: إن العرب فشلوا في ملء الفراغ الذي حدث بخروج مصر من المعادلة، وفشلوا في محاصرة مصر بعد اغتيال السادات، ولم ينجح العراق ولا غيره من الدول، مهما بلغت ثروتها، في قيادة المنطقة والتصدي للمخاطر التي أحاطت بها.
وإذا نظرت بتمعّن إلى سلسلة الأحداث التي واكبت خروج مصر من معادلة الصراع فستجد عجباً.
لقد احتل الاتحاد السوفياتي أفغانستان وبدأ الجهاد الأفغاني مدعوماً من أميركا وحلفائها السعودية ومصر رسمياً، وبدعم هائل من الحركات الإسلامية والشعوب العربية والإسلامية. ومع تصاعد عمليات المجاهدين، برزت مشكلة «جماعات الجهاد الإسلامية» من مصر والسعودية والجزائر واليمن. ومع عودتها إلى بلادها، عانت تلك البلاد أعمال عنف رهيبة هزّت أركان الحكم فيها، ثم عادت بقايا تلك الجماعات لتؤسس «تنظيم القاعدة» الذي أصبح رقماً في المعادلات السياسية الإقليمية كمدرسة أسست لمنهج جديد أرهق البلاد والعباد، بالتكفير والعنف العشوائي وعدم وضوح أي رؤية سياسية [لعب الصهاينة على ذلك الأمر وخلقوا إعلامياً حالة من الخوف من الإسلام، مما أدى إلى تعاون كبير مع النظم العربية الرسمية لمواجهة الخطر الإسلامي]. تزامن ذلك مع الثورة الشعبية الإسلامية الكبيرة التي قادها الإمام الخميني في إيران ونجاحها المذهل في إطاحة عرش الشاه وتغيير المعادلة القائمة (حيث كانت إيران بجانب تركيا أكبر داعم للعدو الصهيوني)، ودخلت المنطقة سلسلة حروب مدمّرة: الخليج الأولى، ثم الخليج الثانية باحتلال الكويت. وكانت النتائج مزيداً من استنزاف الثروات العربية وإزهاق ملايين الأرواح وتدمير العراق واحتلاله بعد حصار طويل ثم دخول العراق فى نفق مظلم لا يبدو أي بارقة أمل في الخروج منه قريباً، وكان الكاسب الأكبر في الحالتين هو إيران التي أطاحت لها أميركا عدوّين لدودين: طالبان في أفغانستان بعد احتلالها وقصفها، ونظام البعث القومي في العراق بقيادة صدام حسين، وبرزت الأحزاب الشيعية التي تحالفت مع الأحزاب الكردية على حساب أهل السنة في العراق الشقيق.
التطور الأخطر على المنطقة كان الحروب التي شنها العدو الصهيوني على العالم العربي رغم إعلان السادات أن حرب رمضان/ أكتوبر (تشرين الأوّل) كانت آخر الحروب.
فقد هاجمت طائرات صهيونية العراق عام 1981، ثم احتلت القوات الصهيونية جنوب لبنان في 1982، ثمّ شنّت حرباً على لبنان عام 2006، ثم حرباً أخرى على غزة عام 2009. وكان الهدف من تلك الحروب جميعاً إرسال رسالة واضحة إلى العرب والمنطقة والعالم. هذه منطقة نفوذ صهيوني، والدولة الصهيونية هي اللاعب الرئيسي، وعلى الجميع القبول بهيمنتها ولا قدرة لأحد بالتصدي لها، ونجحت في إرغام قيادة منظمة التحرير الفلسطينية على توقيع اتفاق أوسلو، ولم تنفذ منه إلا ما تريده لمصلحتها فقط ولحماية أمنها، واتخذت من دول الطوق وجيوشها حارساً أميناً على حدودها وأمنها، وحاولت فرض التطبيع التجاري مع الدول العربية في الخليج وموريتانيا... إلخ.
في ظل تلك التطورات المتسارعة، كان السؤال الملح على العرب والمسلمين وطبعاً على المصريين: أين مصر؟
لقد خيّم على مصر خلال تلك العقود الثلاثة ركود غريب، وفشل النظام المصري في الخروج من حالة الجمود السياسي، بل عانى مشكلات اقتصادية ضخمة، رغم وعود الرخاء المزعوم بانتهاء الحروب، وانهارت منظومة القيم الاجتماعية والثقافية في أعرق بلاد المنطقة، وتدهورت المرافق العامة بصورة لم يسبق لها مثيل رغم حجم المعونات الخارجية والمنح، بل رغم حجم الديون الكارثية التي أرهقت الميزانية المصرية. وساد مناخ من الفساد الذي استشرى ليصل إلى فساد المواطن العادي، ولم يعد نظام التعليم قادراً على تلبية حاجات سوق العمل، وفشل نظام العلاج الحكومي في تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين الفقراء، وخرجت الأزمات تلو الأزمات تهزّ ثقة المواطنين في قدرة الحكومة على علاج أي أزمة منها.
والأخطر من ذلك كله هو الانسداد السياسي الذي راوح مكانه، وعدم قدرة النظام ورجاله على التمتع بأي قدر من الرؤية التي تخرج مصر من أزماتها بأية طريقة، بل وصل الحال إلى محاولة البعض توريث ابن الرئيس جمال مبارك لوالده في منصب رئيس الجمهورية.
كانت الخطط والضغوط الأميركية هي التي أخرجت مصر من المعادلة الإقليمية، وكان استسلام النظام المصري لتلك الرؤية الأميركية هو السبب في حال الفراغ الذي تشهده المنطقة، وحال الصراع بين المشاريع المختلفة لملء الفراغ.
واليوم، فيما مصر في حال مخاض وتحوُّل، يجب أن ندرك أن هذا التحول لن يؤدي فقط إلى إخراج مصر من أزماتها الداخلية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بل هدفه استعادة مصر مكانتها الإقليمية ودورها الريادي في المنطقة العربية والإسلامية، بل العالمية.

بروز مشاريع ثلاثة على الساحة الإقليمية: الصهيوني، الإيراني، والتركي
إن مصر قوية سياسياً، متماسكة اجتماعياً، متعافية اقتصادية، مبدعة ثقافياً، متسامحة دينياً. مصر تلك ستعود لملء الفراغ الذي شغر بسبب تراجعها على كل الأصعدة.
مصر التي كانت درّة الإمبراطورية العثمانية، والرائدة في مقاومة الاحتلال، والداعمة لكل حركات التحرر الوطني والمقاومة، والمتقدمة سياسياً قياساً على دول المنطقة، والحاضنة لكل المفكرين والمبدعين في كل المجالات عربياً والمستقبلة لطلاب العلم من كل مكان في جامعاتها الأزهرية وغيرها، والواصلة ببعوثها لقلب أفريقيا، مصر تلك هي التي نريد أن نستعيدها، بل أكثر من ذلك، لتقوم بدورها الرائد.
إن حال الحراك السائد الآن في مصر ستؤدي إن شاء الله إلى تغيير حقيقي، يبدأ بالسياسة وإصلاح النظام الانتخابي ليعبّر الشعب عن إرادته ويختار ممثليه في البرلمان، بل يغيّر الحكومة متى أراد بعد محاسبتها، ولن يتوقف عند ذلك، بل الهدف هو بناء مصر قوية عفية متماسكة رائدة تحاور الآخرين من أبناء المنطقة من موقع الند والكفؤ، وتتصدى للعدو الصهيوني وللهيمنة الأميركية من موقع القادر على وقف التمدد الصهيوني، وتقدر أن تقول «لا» بحسم لأميركا المثخنة بجراحها في العراق وأفغانستان.
مصر تلك يمكن أن تحقق حلماً عربياً هو إحياء محور [القاهرة ــــ دمشق ــــ الرياض] لإحياء الأمل في نفوس العرب باستعادة التضامن العربي.
مصر تلك العفية القوية يمكنها أيضاً التفاوض مع القوى الإقليمية لبناء مثلث القوة [القاهرة ــــ اسطنبول ــــ طهران] وللتصدّي للمخاطر الخارجية وبناء جسور الثقة بين الشعوب الإسلامية.
هنا يمكن أن نقول إن تاريخاً جديداً يُسطَّر للمنطقة العربية والإسلامية، لنشرح حالة الحراك الحالي في مصر.
كيف نحقق ذلك؟ قد نحتاج إلى عودة قريباً إن شاء الله.
* قيادي في جماعة الإخوان المسلمين في مصر