لماذا نترك القاضي الذي صفّقنا له وحيداً؟


نزار صاغيّة*وبالطبع، تأتي هذه الخطوة كحلقة إضافية من المسلسل الآيل الى نقض حكم «سويدان» في مختلف أبعاده. فمنذ بدايات هذا المسلسل، وقبل الطعنين المقدمين ضد الحكم من النيابة العامة خارج اختصاصها والدولة، رغم إعلان وزير الداخلية رضوخه له، تعرض النظام بأشكاله المختلفة للقاضي الذي أصدره. وهذا ما دوّى بقوة في المؤتمر الصحافي للنائب فؤاد سعد الذي عمد الى التشهير به، متهماً إياه بأنه يعشق المفرقعات الإعلامية، وبأنه يتصرف بوحي من حسابات سياسية. وقد رأى النائب أن إعطاء «الحرمة» (الكلمة للنائب) حق منح الجنسية لأولادها إنما يؤدي الى زعزعة التوازن الديموغرافي بين الطوائف (عن هذا الأمر، يراجع مقالي: القاضي إذا اجتهد، «الأخبار»، 21/7/2009). وهذا ما تمثل أيضاً في حجب الإذن عن القاضي في المشاركة في ندوات ومحاضرات، من باب إخراسه. فإذا حاضر لمرة من دون إذن بمناسبة تلقيه جائزة حقوق الإنسان لعام 2009 من منظمة لبنانية، أحيل الى هيئة التفتيش القضائي للتحقيق. فكأنما السلطة لا تكتفي بفسخ الحكم، لا تكتفي بنقض التوجه الاجتهادي للقاضي وتجريده من أي مشروعية (وهذا ما حصل بموجب الحكم الصادر عن محكمة الاستئناف برئاسة القاضية ماري دنيز المعوشي، يراجع مقالي: شبح جوني قزي، محكمة استئناف المتن تغلق أبواب الاجتهاد... ضد النظام، «الأخبار» 1/6/2010)، انما تريد بالدرجة الأولى ردع أي قاض تسوّل له نفسه اعتماد توجه مماثل. فالمشكلة ليست في نتيجة الحكم المذكور بحد ذاتها بل في رمزيته وأبعاده؛ وهي مشكلة تفرض علاجاً من جذورها. فما نفع أن ينقض الحكم في هذه القضية إذا بقي القاضي واثقاً من موقفه وحريصاً على حقه في الاجتهاد، إذا توسع سواه من القضاة في الاجتهاد في هذا الميدان وذاك، فأخرجوا عشرات الأحكام المناقضة لرغبات السلطة؟
بل ما نفع ذلك إذا باتت قصور العدل قبلة ومنبراً للقوى المطلبية التغييرية للتعبير عن مطالبها بلغة حقوقية، على نحو يجعل القضاء في تواصل دائم مع هذه القوى، وفي موقع الحَكم الطبيعي بينها وبين السلطة الحاكمة؟ والواقع أن «السلطة» تقدم، من خلال هذه التشكيلات، إثباتاً إضافياً على سوء التنظيمات القضائية التي ما برحت تسمح بنقل القاضي من دون موافقته، على نحو يجرده من أحد ضمانات الاستقلالية الأساسية، ويجعله دائماً تحت رحمة القيمين على وضع التشكيلات. فبإمكانهم أن ينقلوه حيثما شاؤوا، وربما متى وكيفما شاؤوا، بقرارات استنسابية، وذلك بموجب مشروع تشكيلات يضعه مجلس القضاء الأعلى بالتشاور مع وزير العدل وفق أحكام لا تقيم أي اعتبار لموافقته ولا يلزمها أي تعليل. ويلحظ أن مجلس القضاء الأعلى معين في غالبية أعضائه (ثمانية من أصل عشرة) مباشرة من جانب الحكومة، ما يجعله مجرداً هو الآخر عن ضمانات الاستقلالية تجاهها وأقله مجرداً من أي صفة تمثيلية للسلطة القضائية.
وبالواقع، هذا التحكم في نقل القضاة لا يخالف فقط مبادئ الأمم المتحدة بشأن استقلالية القضاء المعلن عنها في عام 1985 ومعها المبدأ المكرّس بعدم جواز نقل القاضي من دون موافقته في غالبية الدول الدستورية في العالم، إنما أيضاً الدستور اللبناني 1926 الذي وردت في صيغته الفرنسية إشارة الى وجوب تمتع القاضي بهذه الضمانة garantie d’inamovibilite، وهي ضمانة لا نجد لها أثراً في النسخة العربية لأسباب يصعب اختزالها بخطأ في الترجمة. وهكذا، وفي ظل تنظيم مشابه، كان من الطبيعي أن تمثّل التشكيلات سلاحاً بيد السلطة بمعناها الواسع ــــ من داخل القضاء أو من خارجه ــــ ضد القضاة، فيسعى كل منهم الى التقرب من أصحاب القرار الجالسين على قمة الهرم والاستقواء بهم للمحافظة على منصبه أو الى تحسينه، وغالباً في مواجهة زملاء يتحولون الى غرماء له. سلاحاً بيد هذه السلطة لتهديد استقلالية القضاة، للاستفراد بهم وتعريتهم، فيرقى من يجاملها ويهمش من يعارضها. وتشاء الصدف أن يكون أحد أبرز ضحايا التشكيلات في ما مضى هو القاضي كبريال المعوشي (والد القاضية ماري دنيز المعوشي رئيسة غرفة المحكمة التي فسخت حكم سويدان والتي هي عينت أخيراً بقرار حكومي في أحد أعلى المناصب القضائية كرئيس لهيئة التشريع والاستشارات) والذي نقل هو الآخر بموجب تشكيلات جزئية صدرت في شباط 1980 من رئاسة محكمة جنايات بيروت الى منصب مستشار ثان في محكمة التمييز. وقد جاء نقله آنذاك كردة فعل على انتخابه رئيساً للجنة القضائية المؤقتة التي أنشأها عدد من القضاة للمطالبة بتحسين الشروط المعنوية والمادية للعمل القضائي. وكانت هذه اللجنة قد نجحت في إطلاق حراك لافت شمل مئات القضاة في خضم الحرب، للمطالبة بتحسين شروط عملهم معنوياً ومادياً، وهو أحد الحراكات القليلة التي اجتمع فيها هذا العدد الكبير من القضاة للتعبير عن استقلاليتهم. ويلحظ أن الصحف نقلت على نحو مستفيض آنذاك خبر استهداف الرئيس المعوشي، لا بل إن المعوشي نفسه توجه الى الإعلام للتنديد بالسياسة الرسمية، مؤكداً أن نقله «لم يأتِ عفواً بل انتقاماً وتشفياً للمواقف التي اتخذها» و«أن السياسيين تدخلوا في هذه التشكيلات وكأنها أصبحت كوتا»، مضيفاً «أن المتضررين من استقلال القضاء يستشرسون في محاربة كل من يطالب باستقلاله» («النهار»، 23/2/1980). كما يسجل أن لجنة الادارة والعدل البرلمانية تحركت للتحقيق في مدى صحة هذه الاتهامات الموجهة لوزارة العدل ومجلس القضاء الأعلى باستخدام سلاح التشكيلات للتخلص من قاض معارض (عن كل هذه الأمور، يراجع سامر غمرون ونزار صاغية، التحركات القضائية الجماعية في لبنان، في «حين تجمع القضاة»، المنشورات الحقوقية صادر، بيروت، 2009).
والمخيب للآمال أنه، رغم التسريبات الواسعة لمضمون التشكيلات القضائية والتعليقات عليها التي تنشر هنا وهنالك، فإن وسائل الإعلام لزمت الصمت بشأن استهداف القاضي جوني قزي، على نحو يشير الى نجاح السلطة الواسع، على الأقل في الوقت الحاضر، في تهميشه. فالقاضي الذي ملأ حكمه نشرات الأخبار المتلفزة والصفحات الأولى للصحف، القاضي الذي فتح المجال أمام نقل النضال النسائي لفترة من صالونات السياسيين الى قصور العدل، القاضي الذي استقبله وزير الداخلية (الوزير الوحيد المختص في قضايا الجنسية) مهنئاً قبلما يطعن أو يغض الطرف عن الطعن في حكمه، بات اليوم عارياً يجابه وحده سلاح التشكيلات من دون أي صوت يرفده للدفاع عنه. لا بل إن الصحف نفسها التي تسابقت في تغطية حكمه وردود الفعل عليها (وخصوصاً «الأخبار» و«السفير»)، هي نفسها التي تتجنب اليوم أي إشارة الى احتمال نقله رغم المطولات المنشورة فيها عن التشكيلات القضائية والأسماء المطروحة فيها. وكأنما «السلطة» تتحدى القوى التغييرية وتوجه اليها رسائل بالغة الدلالة: فأن ينتهي القاضي الذي راهنت عليه هذه القوى، وحيداً، عاجزاً عن اجتذاب أي اهتمام، أي ضوء، يعني أنه من العبث المراهنة على التغيير من خلال القضاء. فليس للقضاء أي دور، فهو مجرد خادم للحاكم... وقد آن تالياً لدعاة التغيير أن ينكفئوا عنه وأن يعودوا الى الدوران في أفلاك السلطة الحاكمة التي هي وحدها تملك زمام القرار، أما ما عدا ذلك فهو مغامرات غير محسوبة وفقاعات إعلامية محض. بل أكثر من ذلك، فكأنما هذه الرسائل تهدف الى تحميل هذه القوى، ومعها الإعلام، مشاعر ذنب من خلال إظهار استهداف القاضي على أنه نتيجة طبيعية للتغطية الإعلامية والترحيب العارم الذي حظي حكمه به، فعسى هذه القوى تمتنع مستقبلاً عن تكريم القضاة، عن التصفيق لهم، ضنّاً بهم وتجنباً لشرور النقمة عليهم.
وانتصار السلطة الحاكمة هنا لا يتوقف عند هذا الحد. ففضلاً عن دفش مبدأ فصل السلطات مع القضاء الى أقصى حد لمصلحتها، والمساعي نحو استعادة احتكارها لـ«ورش الإصلاح»، فهو يتعداه نحو تحجيم القوى الاجتماعية وإظهار مدى تشتتها واجتزاء رؤاها.
ففيما تبدو السلطة في انسجام تام مع نفسها، فتحدد أهدافها وتستخدم لهذه الغاية جميع الوسائل المتاحة لها المشروعة أو غير المشروعة (ومنها القدح والذم والتشهير)، فإن القوى الاجتماعية أو ما يصطلح على تسميته «المجتمع المدني» تبدو، من خلال الصمت الذي تلزمه، على العكس تماماً في حال انكفاء وتناقض مع الذات. فما معنى أن تصفق قوى كثيرة للحكم بكل ما لديها من قوة، ومن ثم تلزم الصمت أو تمتنع عن أي جهد إزاء معاقبة القاضي الذي أصدره، وكأنها غير معنية بمصيره، أو كأنما لها غنم الحكم وعلى القاضي وحده غرمه؟ ما معنى أن يوصف حكم قضائي بأنه مكسب كبير لهذه القوى وتحديداً للمرأة في زمن تحجم فيه الطبقة السياسية عموماً عن القيام بأي إصلاح ذي شأن، من دون أن يتولد لديها أي شعور أو رؤية استراتيجية بأهمية هذه الآلية وتالياً بأهمية الدفاع عن مرجعية القضاء واستقلاليته، بل من دون أن يتولد لديها أي استعداد للدفاع عن مكسبها أو للمحافظة على احتمال تحقيق مكاسب مماثلة مستقبلاً؟
وألا يعكس ذلك، رؤية مجتزأة للقوى المجتمعية التي يبدو كل منها وكأنه يؤثر حصر أعماله وقضاياه ضمن حدود اختصاصه، بمعزل عن أي رؤية اجتماعية شاملة؟ فإذا انحصر هدفها مثلاً في تعزيز حقوق المرأة، في تأمين حمايتها، فهي بالكاد ترى أن تحقيق أهدافها يستوجب أحياناً تقديم أقصى حماية اجتماعية ممكنة للقضاة الذين قد يتعرضون للكيد أو التنكيل من جراء إنجازاتهم في تكريس هذه الحقوق كما هي حال القاضي قزي، بل هو يستوجب اهتماماً دائماً للدفاع عن استقلالية القضاة. ففي ظل نظام يقيم الاعتبار الأكبر للطوائف والعصبيات، ألا يصبح الخطاب الحقوقي هو الأنسب لمناقشة القضايا الحساسة؟ وتالياً، ألا يصبح القضاء الرسمي هو المنبر الأنسب، وربما الوحيد، للتعبير عن المطالب التغييرية، لتكوين مساحة وسطية يتمتع فيها كل مواطن بحقوقه الأساسية بمعزل عن مدى قربه من الزعامات والأقطاب؟ وألا يفرض ذلك على مختلف القوى العاملة في المجال الحقوقي، إجراء مراجعة شاملة لدور القضاء ومكانته في حماية الحقوق التي يدافعون عنها، ولا سيما بالمقارنة مع منجزات الطبقة السياسية (عن هذا الأمر، يراجع مقالي: أجمل الأحكام 2009: القاضي رائداً في مجتمعه، «الأخبار»، 13/1/2010) تمهيداً لاتخاذ التدابير الضرورية لصون هذا الدور وتعزيزه، كأن تنشئ مجتمعة اتحاداً وطنياً لحماية أي قاض قد يتعرض لانتهاك أي من حقوقه؟ أما أن نترك القضاء وحيداً عند أول مواجهة مع الطبقة السياسية، فنحن بذلك كمن يطمر منجم ذهب بدلاً من حفره، خوفاً من اتساخ أظافره.
* محامٍ وباحث في القانون