تونس | غادر الرئيس التونسي قيس سعيد، نحو إيران، للتعزية بالرئيس الراحل، إبراهيم رئيسي ورفاقه، ليكون بذلك أول رئيس تونسي يزور طهران منذ قيام ثورتها الإسلامية، بعدما تبنّت تونس، ضمنياً، الموقف الغربي من إيران واكتفت بعلاقات حذرة وسطحية معها. هكذا، بدا سعيد حازماً في القطع مع الإملاءات الغربية في خصوص هذه العلاقات، بل وحتى في إسكات أصوات النخب الفرنكوفونية التي تعارض قيام أي أواصر مع طهران، تنفيذاً للتوصيات الغربية أو الخليجية التي تتبنّاها وتحاول فرضها. وفيما اصطحب سعيد خلال الزيارة حشداً من وزرائه ومستشاريه، والتقى بوجوه إيرانية بارزة في مقدّمتها المرشد الأعلى علي خامنئي، تشير المعطيات إلى أن الخطوة تتجاوز التعزية، إلى إقامة روابط متينة مع إيران، ولا سيما أن سعيد قطع منذ فترة العلاقات مع حلفاء تونس التقليديين وانطلق في البحث عن حلفاء جدد.غير أن الرئيس لم يغادر إلى طهران من دون بلبلة في تونس؛ إذ خلّف وراءه حالة من الصدمة اعترت حتّى المساندين له، نتيجة الأحكام القضائية التي صدرت في حق المحلّل والمعلّق السياسي مراد الزغيدي، ومقدّم البرامج التلفزيونية والإذاعية برهان بسيّس، أول من أمس، بالسجن لعام واحد، وفق ما يقتضيه المرسوم الرئاسي عدد 54 والفصل 21 منه. ووفقاً للناطق باسم المحكمة الابتدائية، محمد زويتة، فإن المحكمة قررت سجن الزغيدي وبسيّس «6 أشهر من أجل جريمة استعمال شبكة وأنظمة معلومات واتصال لإنتاج وترويج وإرسال وإعداد أخبار وشائعات كاذبة بهدف الاعتداء على حقوق الغير والإضرار بالأمن العام»، فضلاً عن 6 أشهر إضافية «من أجل جريمة استغلال أنظمة معلومات لإشاعة أخبار تتضمن نسبة أمور غير حقيقية بهدف التشهير بالغير وتشويه سمعة والإضرار مادياً ومعنوياً».
ويرى مراقبون أن «الحكم ذو أبعاد سياسية، ومرتبط بمساندة الزغيدي وبسيس للمحامية والإعلامية سنية الدهماني التي تكنّ عداءً واضحاً للرئيس على خلفية قراراته»، وأن «للنظام السياسي القائم يداً في تصفية خصومه ومن يساندهم». ويعتقد هؤلاء أن غاية الأحكام الأخيرة «تتجاوز عقاب الزغيدي أحد أكثر الصحافيين مهنية وحياداً في البلاد، وبسيس الذي واصل تزلّفه إلى الرئيس حتى خلال استنطاقه من قبل القاضي طمعاً في حكم مخفّف، بل هو رسالة واضحة إلى كل من تسوّل له نفسه الوقوف في وجه النظام أو نقده». وهكذا، تبدو الأجواء ترهيبية بامتياز، فيما أصبحت أي كلمة كافية للزجّ بأصحابها داخل السجن، لتأتي التهم لاحقاً بعد أن تتكفّل الأجهزة الأمنية بالبحث والتثبت حتى من تصريحات تعود إلى سنوات خلت، كما حصل مع بسيّس مثلاً.
على خط مواز، عادت «الهيئة الوطنية للمحامين» لتطالب بإطلاق سراح المحامين المعتقلين، كاشفة أن عدد القضايا التي طاولت آخرين على خلفية اعتصامهم في «دار المحامي» في تزايد، الأمر الذي يستبطن «استهدافاً واضحاً» لهذا القطاع على أمل تدجينه. وبدورها، طالبت «هيئة الدفاع» عن المحامي مهدي زقروبة، الذي تعرّض للتعذيب خلال اعتقاله، بأن يستمع إليه القضاء في أقرب وقت في خصوص التعذيب الواقع عليه، والذي يهدد عدم القيام به بضياع حقوقه وإفلات من عذبوه من العقاب. كذلك، نظّمت مجموعة من الشباب النشطاء تحركاً في مقر «نقابة الصحافيين» في اتجاه شارع الحبيب بورقيبة، أمس، لتعلن ميلاد حراك جديد تحت شعار «احكموا الحيطان»، في إشارة إلى تواتر الاعتقالات أخيراً. واللافت أن الحركة الجديدة أرادت، وفقاً لبيانها التأسيسي، إبعاد نفسها عن معسكرين اثنين: جميع القوى الحاكمة في فترة ما قبل انقلاب الرئيس، والتي وصفتها بالقوى الرجعية التي ترغب في العودة إلى الحكم؛ وجميع مساندي سعيد والذين تتهمهم بلعب دور المعارضة الكرتونية.
هكذا، يبدو أن النظام بثّ، من غير قصد منه، روحاً جديدة في نفوس النشطاء، الذين عادت سلوكياتهم لتشبه ما كان سائداً أيام نظام ابن علي لناحية أخذ الحيطة من التعرض للاعتقال، لمقاومة ما يعتبرونه «نظاماً ديكتاتورياً»، فيما بدأت الحركات المواطنية في التشكل، بعيداً عن الأحزاب السياسية، بعد أن صمتت لثلاث سنوات وتفتّتت بين مؤيد لسعيد ومعارض له. وعلى رغم أن هذه الحركات قد تبدو غير ذات أهمية في ميزان خلخلة النظام، إلا أنها طالما مثّلت «كابوساً» لكل الأنظمة، نظراً إلى قدرتها على الحشد القاعدي وإقناع المواطنين غير المتحزبين بالتحرك، فضلاً عن المصداقية التي اكتسبتها على امتداد سنين، على غرار حركة «مانيش مسامح» التي كانت حقّقت التفافاً شعبياً حولها، وتقاطعت مع الأحزاب من دون أن تنصهر فيها، خصوصاً خلال محاولة إسقاط قانون المصالحة المتعلق بالعفو عن أذرع نظام ابن علي.