ذات يوم، في أواخر سنة 1984، اجتمع الصحافي التونسي، عمر صحابو، مع الجنرال زين العابدين بن علي، وكان الأخير قد عاد من وارسو، بعد أربعة أعوام قضاها سفيراً لبلاده في بولندا (يطلق التونسيون على بولندا اسم بولونيا). وسأل الصحافي المخضرم جليسَه الذي ولاّه الرئيس بورقيبة وقتَها على جهاز الأمن التونسي: «كيف هي الأحوال في بولونيا الآن؟»، وردّ بن علي بلا اكتراث: «لا شيء مهماً هناك». وتعجب الصحافي من ردّ بن علي، وقال له: «ولكن الأوضاع ساخنة في بولونيا». وافترّت شفتا الجنرال عن ابتسامة هازئة، وأجاب: «ليس من شيء ساخن في بولونيا سوى نسائها». ابتسم صحابو، وقد فهم كيف كان السفير التونسي زين العابدين يقضي وقته. وشيئاً فشيئاً، تغيّر مسار الحديث السياسي ليصير موضوعه عن العاهرات في أوروبا الشرقية، ثم إن صحابو أحبّ أن يعود من جديد إلى أحاديث السياسة، فسأل بن علي: «هل ما زالت حركة تضامن مؤثرة في بولونيا؟». ضحك بن علي، وأجاب الصحافي بأنه معجب حقاً بالجنرال ياروزلسكي. وسأل عمر صحابو الجنرال التونسي: «ما الذي أعجبك في حاكم بولونيا العسكري؟!». قال بن علي، وهو يبتسم: «ياروزلسكي اعتقل جماعة ليخ فالنزا كلهم في ليلة واحدة، ووضعهم مع بعضهم في «باقة» (عبارة تونسية تعني عربة الترحيلة إلى السجن)، ورمى بهم في الحبس».
السجّان
لم يكن زين العابدين بن علي مؤهلاً سوى لكي يكون سجّاناً. ولكن الأقدار منحته أكثر كثيراً مما كان يستحق أو يتمنّى، فجعلته سجّان بلاد كاملة، اسمها تونس. وحينما أحاطت تظاهرة شعبية حاشدة، في عصر يوم 14 كانون الثاني 2011، بمقرّ وزارة الداخلية التونسية، وأخذ الناس يندّدون بنظام الديكتاتور الفاسد، فإن من بين مشاهدها الرمزية التي ظلّت عالقة في وجدان التونسيين، مشهد شاب يحمل في يده قفصا لُفَّ فوقه العَلم. وكان المعنى في مشهد القفص التونسي الذي انفتح بابه، هو أن العصافير المسجونة تحرّرت أخيراً من سجّانها الغليظ.
لم يكن الحبيب بورقيبة أول رئيس لتونس يثق بالعسكر. أبغض الرجل العسكر منذ أن اكتشف، ذات يوم من شهر كانون الأول 1962، أن قائد حرسه الخاص، النقيب كبير المحرزي، أفشى لمجموعة من الضباط المتآمرين عليه كلمة السرّ التي تَكْفِل لحامليها أن يدخلوا إلى حرم القصر الرئاسي من غير أن يوقفهم أحد. وكان المتآمرون استعدوا لكي يَلِجُوا على بورقيبة في مخدعه، ويذبحوه في فراشه جزاءً على ما اقترفه بحق التونسيين، قبل شهور، في بنزرت.
لم يكن زين العابدين بن علي رجلاً ذكياً جداً، لكنه كان ماكراً

من بعد تلك المحاولة الانقلابية التي أجهضتها وشاية، وهي تكاد أن تقع، لم يعد بورقيبة يأمن لأيّ جنرال يحمل فوق كتفيه نجوماً. وطوال فترة حكم «المجاهد الأكبر» التي ناهزت ثلاثين عاماً، لم يوَلِّ بورقيبة أيّ رجل ذي خلفية عسكرية في منصب سياسي. وأما الاستثناء الوحيد الذي جنى به بورقيبة على نفسه، فكان يوم عيّن الجنرال زين العابدين بن علي وزيراً للداخلية، ثم زاد فأسند له منصب الوزير الأول، في 2 تشرين الأول 1987. ولم يمضِ شهر واحد على ذلك القرار المشؤوم الذي اتخذه الرئيس التونسي حتى سمع نبأ عزله من المذياع، قبل أن تطوّق قوة من الحرس الوطني قصره في قرطاج، وتخرجه منه إلى محبسه الجديد، كسير الجناح، منبوذاً، مهزوماً.

المخادع
لم يكن زين العابدين بن علي رجلاً ذكياً جداً، لكنه كان ماكراً، ومخادعاً، وكذّاباً. أغوى سعيدة ساسي، ابنة أخت بورقيبة، وقد أصبحت أقرب الناس إلى عقل خالها وقلبه، من بعدما طرد العجوز جميع من كانوا حوله في آخر عام من حكمه. وأخذت الغبيّة تزيّن لخالها المريض أن بن علي هو «الأسد الهصور» الذي سينقذ تونس من شرور الإسلاميين الذين يعيثون فساداً فيها. ولقد ابتلع بورقيبة الطعم فعلاً، وصدّق أن بن علي رجل صالح. والأغرب من حماقة بورقيبة هو أن الشعب التونسي كلّه - تقريباً - صدّق وعود انقلاب السابع من تشرين الثاني/ نوفمبر 1987. واعتبر التونسيون أن الرجل الذي خان رئيسه الذي ائتمنه يصلح أن يوثق به، ويؤتمن على مصالح الوطن. كانت شعبية بن علي، في عام حكمه الأول، قياسية. ولقد ظنّه الفقراء مخلّصاً بعدما رأوه يهبط عليهم من السماء عبر طائرة مروحية، ويتجول في قراهم النائية التي لم يزرها مسؤول تونسي من قبل. واعتبره الإسلاميون منقِذاً، بعدما أبعد كابوس بورقيبة من فوق صدورهم، ونزع حبال المشانق عن رقابهم. وظنّه الليبراليون ديمقراطياً ومصلحاً حقيقياً بعدما غرّتهم وعوده الزائفة عن «الحياة السياسية المتطورة والمنظمة». واستبشرت النساء به خيراً، بعدما قال إنه سيدافع عن مكاسبهن، ويحميها، ويدعمها. لكن نعيمة الكافي وحدها كانت تعرف من هو زوجها، ومن أيّ معدن هو. وإن أول ما صنعه زين العابدين لمّا استوى على قصر قرطاج حاكماً، هو لفْظ أمّ بناته الثلاث وطردُها، وجلبُ عشيقته ليلى الطرابلسي لتحلّ محلها.

الجشع
كانت ليلى الطرابلسي هي المرأة التي أحبّها «الزين»، منذ أن التقى بها أول مرة لما جاءت إليه تشكو زوجها السابق. وسريعاً ما أثمر الحب الحرام طفلة سُمّيت نسرين. وشيئاً فشيئاً، استولت العشيقة الجميلة على قلب الكهل الذي يكبرها بعشرين عاماً. وكانت مُنية الرئيس أن ينجب ولداً ذكراً يبقي ذرّيته من بعده. وأخبرت ليلى رجلها أن في أحشائها ولداً، فطار عقل بن علي، وطلّق زوجته، وتزوج ليلى. ولم يكن المولود الموعود ذكراً بل أنثى. كانت ابنة خامسة سمّاها أبوها حليمة، على اسم أمّه. ولم تيأس ليلى من إعادة المحاولات، فجاء الولد الذكر أخيراً بعدما صار عمر أبيه ثمانية وستين عاماً. ولم يحبّ الرئيس أحداً قدر ما أحبّ ابنه زين العابدين الصغير. ولقد ترك جانباً مشاغله الرئاسية، ومسائل السياسة، وقضايا البلاد، وخصّص جلّ وقته للاهتمام بالطفل الصغير، فهو يطعمه بنفسه، ويشاركه في لعبه، ويضاحكه، ويؤانسه، ويرافقه. وكذلك طاش عقل الرجل! وسريعاً ما فترت همّته التي حكم بها بلاده عبر قبضة حديدية. وأسوأ من كل ذلك، هو ترك بن علي الحبل على غاربه لزوجته، ولأفراد أسرته الأشقياء، ولأصهاره «الطرابلسية» الطمّاعين لينهبوا البلاد، ويكنزوا الثروات. ووضع محدثو النعمة أيديهم على كل ما وجدوه في طريقهم، فأصبح وضع تونس لا يطاق. خناق القمع يضيق على رقاب الناس، والفساد يعمّ البلاد، والفقر يستشري في المناطق المحرومة أكثر فأكثر، واللصوص الجدد ينهبون بلا حسيب ولا رقيب.
ولم يعد التونسيون يخشون من الديكتاتور الفاسد. وصار المدوّنون الشبان في «فيسبوك» يطلقون على الرئيس اسماً ساخراً، هو «زعبع» (الحروف الأولى من اسم زين العابدين بن علي). وانتفض أهل الحوض المنجميّ ضدّ حكومة بن علي، وهم يرون خيرات جهتهم تمضي إلى سواهم، ولا يدركون منها شيئاً يذكر. وذات يوم شتوي، أشعل محمد البوعزيزي جسده النحيل احتجاجاً على الظلم والحرمان والقهر. وسريعاً ما انتشر اللهب في كل مكان لِيَلْتهم الديكتاتور، وينهي حكمه البائس. ثم ما لبث اللهب الغاضب أن تعدّى إلى ما وراء الحقل التونسي ليصبح حريقاً لا يبقي، ولا يذر.
مات «زعبع»! مات غير مأسوف عليه!