في 26 حزيران الماضي، أدان القضاء المغربيّ قادة حراك الريف الذي كان قد هزّ مدينة الحسيمة ونواحيها بين خريف 2016 وصيف 2017، وسلط عليهم أحكاماً قاسية أثارت سخطاً عاماً، وأظهرت أنّ القضاء صار يمتثل أكثر فأكثر لأوامر السلطة السياسيّة. بالنسبة إلى كثير من المراقبين، تُحيل إدانة ناصر الزفزافي، نبيل أحمجيق، وسيم بوستاتي، وسمير ايغيد، إضافة إلى 49 مناضلاً آخر من الحراك، على الإرث الماديّ والمعنويّ للتاريخ الصراعيّ بين الريف والسلطة المركزيّة، والذي يمثّل خطّ انقطاع هيكليّ يتجلى اليوم في المطالب الاجتماعيّة والسياسيّة للحركة الريفيّة. في هذه المقابلة مع «الأخبار»، يحلّل علي المرابط، الدبلوماسيّ السابق والصحافيّ المتابع للحياة السياسيّة المغربيّة والمحكوم من قبل النظام المغربيّ بعدم ممارسة مهنته لمدة 10 أعوام، محركات الهوس الأمنيّ والقمعيّ لدى النظام المغربيّ تجاه الحركة الريفيّة.
ما هي الدلالات التي تطرحها الإدانات؟ وكيف تفسّر القمع القضائيّ للحراك بينما تحاول السلطات المغربيّة حتى الآن استخدام ورقة الانفتاح بتجنّب تشديد القمع؟
اسمحي لي بمعارضة قولك إنّ السلطات المغربيّة «تحاول استخدام ورقة الانفتاح بتجنّب تشديد القمع»، فذلك غير صحيح. خلال الأشهر الأولى من الانتفاضة الريفيّة، عملت الرباط كعادتها على كسب الوقت حتى ترى إلى أين يتجه الاحتجاج الشعبيّ. عندما أدرك «المخزن» أنّ ما يجري ليس ريحاً عابرة، بل هو موجه صدمة حقيقيّة قد تنتشر في مناطق أخرى من المغرب، أعطى الملك الأمر لقوات الأمن حتى تقمع بقسوة المظاهرات التي مهما قيل عنها، لم ترتكب قطّ أمراً لا يمكن إصلاحه.
لكن حتى قبل الإدانات السخيفة التي تُظهر حالة العجز التام للعدالة المغربيّة الضعيفة والخانعة والمأمورة، قامت قوات الأمن والمخابرات بالاعتداء على الريفيّين، رجالاً ونساءً وأطفالاً. اقتحمت منازل في الليل، كُسرت أقفالها وخُرّبت، حصلت إهانات وشتم واحتجاز غير قانونيّ للمواطنين واعتداءات عليهم، والأكثر جسامة هو التعذيب الذي قامت به الشرطة وأجهزة أخرى في حقّ محتجزين عُزّل، بينهم قُصّر.
زعيم الحراك، ناصر الزفزافي، الذي رأينا جميعاً كيف نُقل بطائرة من مدينة الحسيمة إلى الدار البيضاء، وكيف تمّ تصويره وإهانته وعيناه معصوبتان وهو مجبر على الركوع، صرّح في المحكمة بأنّه تمّ اغتصابه بواسطة عصا. قد يصعقكم ذلك، لأنّنا في عام 2017/2018، لكن ليس بالنسبة إلي. الحقد تجاه الريفيّين مترسّخ في الحمض النوويّ للسلالة العلويّة التي لم تنجح في حكم الريف حتى قدمه لها الاستعمار الإسبانيّ على طبق من ذهب.
بالنسبة إلى دلالة القمع، يجب البحث عنها في طريقة وجود هذا النظام: لا يمكن لـ«المخزن» أن يصلح نفسه، إما أن ينفتح ويُدان بسبب التهجير والإخفاء أو يبقى منغلقاً ويواصل ممارسة القمع لكسب الوقت. لكنّنا نعلم أنّ كلّ نظام مبنيّ على القمع، مهما كان قويّاً وممتداً في الزمن، يبقى منذوراً بالانهيار.

هل توجد انقسامات في رأس الدولة حول طريقة التعامل مع الحراك؟
ما أعلمه هو أنّ قائد الحرس الملكيّ، الجنرال حسني بن سليمان، وهو أحد المخلصين للملكيّة، عُزل من منصبه لأنّ أعوانه الميدانيّين تلقَوا أمراً بعدم قمع المظاهرات. في هذه القضيّة، خسرت وجهة نظر الحرس الملكيّ لصالح وجهة نظر مستشار السوء للملك، فؤاد عالي الهمّة، وعبد اللطيف الحموشي، قائد الشرطة السريّة وغير السريّة، وهما من أنصار الشدّة.

كيف يمثّل ناصر الزفزافي تهديداً للسلطة؟
لا يمثّل شخص ناصر الزفزافي تهديداً؛ فخطابه السياسيّ متقلّب، وغير متناسق، ومتضارب، يقول أحياناً إنّ الملك هو سبب شقاء الريف، وهو أمر صحيح جزئيّاً، ويؤكد في مرات أخرى أنّ الانتفاضة تسعى ببساطة لإخطار الملك بأوجه القصور الخطيرة التي ترتكبها الدولة في المنطقة، حتى إنّنا سمعناه في مرات كثيرة يهين جبهة البوليساريو خوفاً من ربطه بالحركة الصحراويّة الاستقلاليّة. ويُظهر ذلك نقصاً في النضج وخوفاً من «القول».
الوقت الذي يمضيه الملك خارج المغرب أكثر من الذي يمضيه داخله


في الواقع، وبعيداً عن شخصه، يمثّل الزفزافي رمزاً لجميع فئات الريفيّين الذين ملّوا استمرار تهميشهم، وإهانتهم، وتشويههم من قبل النظام وإدارته وأمنه الذين ينحدر أعوانه في أغلب الوقت من مناطق أخرى. صورة الريفيّين في بقيّة المغرب سيّئة، فاستقامتهم ومقاومتهم الدائمة لـ«القمع العلويّ» أمران سلبيّان في نظر بقيّة المغاربة الذين صاروا بعد تخديرهم طيلة عقود من الخوف والجبن عاجزين عن تقليدهم، في حين أنّ مطالبهم هي نفسها.

ما هو أفق الحراك؟ هل يوجد تهديد بأنّ تتطرّف الحركة في سياق اجتماعيّ ملائم للاحتجاج الشعبيّ؟
تعلمين أنّ الانتفاضات في التاريخ المعاصر للمغرب تحدث بصفة دوريّة ولا يمكن لأحد التنبؤ بها، مثلما حدث عندما تفجّر الغضب بعد موت بائع السمك في الحسيمة. لكن يوجد أمر مؤكد، ستحصل انتفاضات أخرى في منطقة الريف. يعيش المغرب على الحافّة، فالوضع الاجتماعيّ ـــ الاقتصاديّ كارثيّ، والفساد ما زال قائماً، والملك فاعل سياسيّ لأنّه يملك ويحكم وتبدو عليه إشارات الإرهاق، فالوقت الذي يمضيه خارج المغرب أكثر مما يمضيه داخله.

يرى مراقبون أنّ الحراك حركة احتجاجيّة اجتماعيّة مبنيّة على أساس هوياتيّ. هل يندرج الحراك ضمن منطق وطنيّ، أم هو في قطيعة معه؟ وهل لا تزال الحركة موحدة بعد إيقاف وجوهها الأساسيّين، وما الذي تبقّى منها؟
أعتقد أنّه يوجد قسمان في الانتفاضة: القسم الأول حمل مطالب اجتماعيّة صرفة، أما القسم الثاني فقد كان سياسيّاً بشكل واضح. استحضار شخصيّة محمد بن عبد الكريم الخطابيّ، المعروف باسم عبد الكريم، مؤسس أوّل جمهوريّة ريفيّة في عشرينيات القرن الماضي والبطل الريفيّ بامتياز، وهو توفي في المنفى عام 1963، ثم ظهور علم جمهوريّة الريف في جميع المظاهرات، أضفى نغمة سياسيّة وهوياتيّة على الانتفاضة.
حاليّاً، جعل القمع والتواطؤ الأجنبيّ (هل سمعت حكومة "ديموقراطيّة" أوروبيّة أو أميركيّة تغضب حيال القمع الرهيب الذي سُلط على الريف مثلما هو الحال مع فنزويلا، نيكاراغوا وغيرهما؟) الانتفاضة الريفيّة تنحني، لكنها لم تنكسر. يجري يوميّاً احتجاز شبان ريفيّين، وهو ما يدل على أنّ أسباب الانتفاضة لا تزال قائمة. عندما لا يترافق القمع مع حلول ناجعة، فإنّه لا يؤدي إلاّ إلى تأخير ما لا مفرّ منه، أي تسريع مسار التاريخ.