الجزائر | لم يكن أحد يتصور أن تلك المناوشات الطلابية التي بدأت ذات ربيع منتصف السبعينات بكلية الحقوق في جامعة الجزائر، ستتحول إلى حرب شاملة تأتي على الأخضر واليابس وتبقي ندوباً عميقة في جسم المجتمع. في ذلك اليوم من شهر أيار/ مايو 1975 تجمع الطلاب داخل الكلية في بن عكنون بانتظار فتح مركز الاقتراع لانتخاب ممثليهم إلى «الندوة الوطنية للشباب» المزمع عقدها في التاسع عشر من الشهر الذي يصادف ذكرى مرور 19 عاماً على مغادرة طلاب الجامعة والمدارس الثانوية مقاعد الدراسة للالتحاق جماعياً بمعاقل الكفاح المسلح في الجبال.كان نشيد «نحن طلاب الجزائر، نحن للمجد بناة/ نحن آمال الجزائر، في الليالي الحالكات» يدوي ويملأ أركان الكلية، وكان الطلاب بشكل مجموعات صغيرة متفرقة في كامل الفناء، بعضها يناقش مسائل سياسية وبعضها الآخر غارق في حكايات اليوميات والنكت التي كانت أيضاً في معظمها سياسية.
فجأة علت أصوات «الله أكبر» وبدأت مجموعات من الشباب الملتحين تركض باتجاه مكتب الاقتراع ثم انطلق رمي الحجارة من كل جانب على المكتب الزجاجي وهشم في ثوان. واندلعت مواجهات بين الطلاب استعملت فيها العصي والسلاسل والقضبان الحديدية والخناجر وكل ما يمكن ان يُلحق الضرر بالطرف الآخر. المهاجمون من التيار الإسلامي حديث النشأة مدعوماً بأنصار مجموعة تسمى «صوت التعريب» وتتشكل من طلاب من الأقسام المعربة ترى أنّ الجزائر لا تزال في قبضة فرنسا ما دامت اللغة الفرنسية منتشرة في كل الأوساط في التعليم والإدارة والقضاء والاقتصاد وغيرها من القطاعات. وتطالب بتعميم التعريب بإعفاء كل من تكوّنوا باللغة الفرنسية من مناصبهم وإحلال «معربين» مكانهم.
كانت كلية الحقوق في بن عكنون هي أهم تمركز للإسلاميين و«صوت التعريب»، وصاروا في ما بعد يلقبون بالبعثيين بالنظر لتوجههم العروبي وكرههم للجزائريين من غير العرب. وكانت السلطات في الجزائر تمنع رسمياً قيام أي تنظيم بعثي في البلاد وينشط الأتباع بشكل سري مرتبطين بفرع «البعث» في تونس. توسع الحلف الإسلامي - العروبي وأسس مركزاً آخر في جامعة قسنطينة، ومن بين أهم الوجوه فيه أبو جرة سلطاني، الرئيس السابق لـ«حركة مجتمع السلم» (الإخوان) وعبدالله جاب الله، مؤسس «حركة النهضة» (الجزائر) ثمّ «الإصلاح» وأخيراً «جبهة العدالة والتنمية». لكن التيار كان شبه منعدم في بقية المجتمع باستثناء بؤر ضيقة في الجامعة. وقد كشفت تلك المواجهات في كلية الحقوق عن وجود مساندين للتيار داخل جهاز الحكم خصوصاً من المسؤول الأول في جبهة التحرير محمد الشريف مساعدية، واتباعه، ووزير الإعلام أحمد طالب الإبراهيمي، ووزير العدل بوعلام بن حمودة. هؤلاء ساندوا التيار الإسلامي الناشئ فقط لمواجهة اليسار عموماً والتيار الشيوعي القوي خصوصاً في الجامعات والمصانع، التي كانت تنبت كل يوم في شتى مناطق البلاد. وعلى قلته عدداً ونفوذاً تمكن التيار الإسلامي من البروز مباشرة بعد وفاة الرئيس هواري بومدين، حيث باشرت الجماعة التي خلفته إحداث تغييرات على نمط الحكم وقلب الأولويات رأساً على عقب. وكانت بحاجة لتوظيف هذا التيار في مواجهة الخصوم من المدافعين عن استمرارية النهج الثوري.
تمكن التيار الإسلامي من البروز مباشرة بعد وفاة هواري بومدين


جاءت أحداث العنف في منطقة القبائل نيسان/ أبريل 1980 لتكرّس تحالفاً بين جناح محافظ قوي في النظام والإسلاميين لتحييد الجامعات والنقابات عن الصراع الحاصل. وحدث في الجزائر ما لم يحدث في أي بلد بالمنطقة العربية، حين تحالف التيار العروبي الذي يُنسب تنظيماً في العادة لـ«البعث»، مع التيار الإسلامي المتشدد باسم حماية «الثوابت الوطنية»، وصار التنسيق بين خلايا إسلامية - عروبية مشتركة سميت «كتائب» وجهاز الشرطة نشاطاً يومياً. وشكلت هذه «الكتائب» محاكم تفتيش زرعت الرعب في الأحياء الجامعية بتأييد مباشر من الشرطة، تجلد وتعتقل الطلاب وتسلمهم إلى مخافر الشرطة لحبسهم بدعوى الكفر أو تشكيل الخطر على مقومات البلاد. والتحق في ما بعد طلاب كثيرون من هذين التيارين بحزب جبهة التحرير وبأجهزة الأمن، عملاً على إيجاد النفوذ لتغيير النظام من الداخل. فكلما حققوا مكسباً، اعتقدوا أنّهم أقدر على تحقيق المزيد. ولم يدم لعب النظام بالنار طويلاً حتى تبيّن أنّ الإسلاميين لا يقنعون بجني «الفُتات»، بل يحملون قضية يريدونها انتصاراً لنهجهم الذي يتجاوز حدود البلد ويرتبط بأجندات أوسع مما تعتقد السلطات، وهي إقامة دولة إسلامية على غرار دولة الجنرال ضياء الحق في باكستان. فهو كان يمثل وقتها ما يمثله أردوغان اليوم لدى «الإخوان» والإسلاميين عموماً. ولتحقيق الغرض، رفعوا سقف المطالب وجسدوا ذلك أيضاً في خطط عمل، من أبرزها إرسال دفعات من الطلاب إلى السعودية للتزود بمنهج الكفاح الإسلامي، والاستيلاء على مساجد في مختلف مناطق البلاد لفرض خطاب مسجدي يوافق توجهاتهم، وفي أكبر استعراض للقوة على الإطلاق أقاموا صلاة الجمعة يوم 12 تشرين الثاني/ نوفمبر بحضور كل قياداتهم، في أكبر شارع بالعاصمة، بعدما أوقفوا حركة المرور ليوم كامل تقريباً من دون أن تحرك قوى الأمن ساكناً.
في «خطبة الجمعة» رفعت قيادات التيار عريضة من 14 نقطة إلى السلطات، في مقدمها تطبيق الشريعة الإسلامية. وهو ما رأته السلطة محاولة انقلاب وعصيان عام، فأدخلت بعضهم السجن وزادتهم قوة ونفوذ. فشكلوا «الحركة الإسلامية المسلحة» منتصف الثمانينات بقيادة بوياعلي مصطفى، وهو ضابط سابق في الجيش اختلف مع قادته لأسباب ظلت حتى اليوم مجهولة. وقد قتل مصطفى مع أعوانه منتصف الثمانينات بضواحي العاصمة بعدما ارتكبوا جرائم عدة في حق قوى الأمن والمدنيين. ولكي يُبيّن النظام أنّه عادل ومتوازن، شنّ حملة غير مسبوقة على الشيوعيين في مقابل إخماد حركة العصيان الإسلامي. وعلى وقع أحداث عنف عمّت كل البلاد في لحظات ضعف النظام بفعل الأزمة الناجمة عن انهيار أسعار النفط، صعد الإسلاميون إلى السطح كأكبر قوة فأسسوا «الجبهة الإسلامية للإنقاذ»، استولوا من خلال عملها القانوني على الشارع والمساجد وكسبوا أول انتخابات محلية صوّت فيها الجزائريون ضد النظام قبل تصويتهم لمصلحة من يخلف النظام. بعدها بأقل من عامين كسبوا انتخابات برلمانية تحوّلت إلى حرب كان الجميع يتوقعونها هذه المرة على خلاف ما كانت عليه الحال في 1975. حرب عبثية، كانت نتيجة اللعب بالنار وسوء تقدير قوة تحوّل الخطاب العنيف إلى آلة مدمرة، خلّفت أكثر من 200 ألف قتيل بحسب التصريحات الرسمية ونحو 20 ألف اختفاء قسري لأشخاص لم يظهر لهم أثر حتى الآن، فضلاً عن خسائر بعشرات المليارات من الدولارات وتعطيل الاقتصاد، وجراح يحتاج علاجها إلى وقت طويل. ما حدث بالجزائر يمكن أن يكون درساً لمن يستخفون بأخطار تكبر على هامش أحقاد على الطرف ثالث.