مشكل ما بعد البترول لا يعالج بالنظر إلى معادلات اقتصاديّة
وترتكز هذه الصناعات على مستويات علميّة لا مثيل لها وعلى حريّة الإبداع، وهو ما يحيل على النظام التعليميّ وحريّة الفكر. النظام العلميّ والتقنيّ في الدول العربيّة البتروليّة خائر القوى، وكثير من الدول لا تعلّم فيها الفتيات ولا يتمتّع العلماء والفنانون بأيّ حريّة إبداعيّة، وترضى هذه الدول باستهلاك الأنظمة المعلوماتيّة والطائرات والأفلام الكاليفورنيّة. لكن من المعلوم أنّ هذه الاستيرادات لا تعود حصراً إلى العجز التقنيّ المحليّ، بل تُفضّلها الحكومات لأنّها تدرّ عمولات مهمّة على الوسطاء المرتبطين بالسلطات القائمة. أحد آخر الأمثلة على ذلك (26 نيسان/أفريل 2018) يتمثّل في أنّه لتركيب واقية الصواعق في أكبر مسجد مستقبليّ في مدينة الجزائر، انتُدِبت شركة فرانكلين الفرنسيّة المتخصصة، وهي التي جهزت من قبل أطول برج في العالم الموجود في دبي. هذه البلدان العربيّة، المستقلة منذ عقود، والتي تملك مليارات الدولارات، لم تُدرّب معماريّاً واحداً قادراً على بناء برج أو مسجد، أو مهندساً واحداً يُتقن صناعة واقيات الصواعق! فما بالك بصناعة طائرة. لكن إيكال العمالة إلى شركات أجنبيّة أو استيراد المواد الأوليّة لا يُظهر فقط الريبة تجاه الخبرة المحليّة، بل كذلك الشهيّة المفتوحة لإبرام العقود مع الأجانب. ما الذي يمكن قوله في ظلّ هذه الظروف عن ما بعد البترول؟
مشكل ما بعد البترول لا يمكن معالجته بالنظر إلى المعادلات أو التوقعات الاقتصاديّة، فما دامت الدول العربيّة البتروليّة خاضعة لحوكمة لا تستثمر في بناء نظام تعليميّ وتقنيّ فعّال، فتح التكوين وسوق العمل أمام المرأة، ضمان حريّة الخلق والإبداع، وبناء ثقة في الاستقرار الماليّ لاستبقاء الرساميل وجذبها بتأسيس ديموقراطيّة مستقرّة وإدارة غير فاسدة، لن تعرف أيّ ترسيم ممكن على طريق التنمية، فمشكل المستقبل السياسيّ، هو قبل كلّ شيء، مسألة سياسيّة.