الجزائر | يصعبُ تقسيم الساحة السياسية الجزائرية بالاعتماد على قطبية اليسار واليمين حصراً، فالأحزاب هنا تُعرف وفق تصنيف «محليّ الصنع»: التيار الوطني (هذه التسمية لا تعني أن التيارات الأخرى غير وطنية، لكنه مجرد مصطلح دَرج عليه الناس) الذي يضم أحزاب السلطة، وعلى رأسها «جبهة التحرير الوطني» و«التجمع الوطني الديموقراطي»، برفقة أحزاب صغيرة تدور في فلك السلطة. أما المعارضة، تنقسم إلى إسلاميين (ممثلين أساساً في «حركة مجتمع السلم» الإخوانية، و«العدالة والتنمية»)، والديموقراطيين («التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية»، «جيل جديد»...)، وليس أخيراً التيار اليساري («حزب العمال»، «حزب العمال الاشتراكي»، «الحركة الديموقراطية الاجتماعية»، «جبهة القوى الاشتراكية»).في كل هذه التيارات، نجد «لَمَسات» يسارية واجتماعية بدرجات متفاوتة، تعود جذورها إلى مبادئ الثورة الجزائرية «المولودةِ من رحم اليسار»، وكذلك إلى طبيعة الدولة الجزائرية المستقلة في العُشريات الأولى للاستقلال. ولمعرفة مدى صعوبة فرز الأحزاب اليسارية في البلاد، يكفي البحث عن أحزاب أو تيارات يمينية (في الشق الاقتصادي)، فكل الأحزاب توافق على الطابع الاجتماعي للدولة الجزائرية، وعلى ضرورة دعم مواد الاستهلاك الأساسية، وتكريس مجانية التعليم والعلاج، وغيرها من المبادئ اليسارية.
حول هذه النقطة، يُلحّ فتحي غراس، وهو المتحدث الرسمي باسم «الحركة الديموقراطية الاجتماعية» (وريث «حزب الطليعة الاشتراكي» ــ باكس) على ضرورة «عدم جعل مفهوم اليسار عنواناً حصرياً لقوى سياسية معينة بعيداً عن رهانات المرحلة ومطامح الشعوب نحو العدالة والديموقراطية». ويقول غراس: «الموقف اليساري ينبع من الموقع الذي نشغله... في الجزائر ترى الحركة الديموقراطية الاجتماعية أن القطيعة مع النمط الاقتصادي القائم على الاستيراد وتهريب رؤوس الأموال إلى الخارج تحت غطاء الفواتير المُضخمة التي تجاوزت 18 مليار دولار سنوياً، بالإضافة إلى الاقتصاد المُوازي الذي يشكل 50% من الاقتصاد الوطني، هي المعايير التي تَتَحددُ في ضوئها الهندسة الحزبية في البلاد».
أما فاتح تيتوش، وهو مُناضل سابق في «جبهة القوى الاشتراكية» (أقدم حزب معارض جزائري يساري، لصاحبه الزعيم التاريخي حسين أيت أحمد)، فيقول إن 70% من التيارات الفعالة في الساحة الجزائرية منذ الاستقلال تنتمي بطريقة ما إلى عائلة اليسار الكبيرة «رغم الصعوبة التي نجدها في قول إن جبهة التحرير الوطني حزب يساري، لكن الواقع يقول إنه عضو في الأممية الاشتراكية، وحزبٌ يصوت بنعم على كل سياسات الدعم التي تُقرّها الدولة»، مستدركاً: «مهما اختلفنا في طريقة رؤيتنا لليسار وكيفية تجسيده على أرض الواقع، لا يمكننا القول إن سياسة الدولة ليبرالية».
اليسار الجزائري لم يرتبط بنظيره العربي القومي، بل باليسار الفرنسي


وعن الإسلاميين، يرى تيتوش أنهم ليسوا من اليمين ولا اليسار، «لأنهم اقتصادياً رأسماليون، لكن لا يمكننا أن نصفهم بالليبراليين، لا في الشق المُجتمعي، ولا حتى الاقتصادي، لكونهم يعتمدون على سياسات اقتصادية توجيهية». طرحٌ يخالفه سابقه غراس الذي شدد على ضرورة ربط المُصطلحات التي نطلقها على أي تيار بأفعاله الراهنة، «فالسيادة والأمن القوميين تهددهما طبقة من الطفيليين (الكمبرادور) التي ترغب في إبقاء البلاد داخل منطق اقتصادي واستهلاكي نيوكولونيالي»، مضيفاً: «الطبقة السياسية في أغلبها حبيسة هذا المنطق الخطير، والدولة الاجتماعية لن تَحمِلهَا إلّا الديموقراطية، ودولة الحقوق والاقتصاد القائم على العمل المنتج، أي المُراكَمَة الوطنية».
أما عن الحزب الحاكم، فيرى غراس أن «جهاز الأفلان «جبهة التحرير» يستحوذ على الذاكرة، أي على اسم جبهة التحرير التاريخية، جبهة كل الجزائريين، مثلما يفعل الإسلام السياسي مع الإسلام، وكل هذا على حساب المشروعية الديموقراطية... كانت جبهة التحرير وراء قانون مالية يُكرس عقاب المواطن بإثقال كاهله بالضرائب والسكوت عمّن استفاد من سياسة الدعم بالمليارات، وهي طريقة تسيير ستساهم في تعقيد الأزمة».
بعيداً عن الإشكالية في «أحقية» تمثيل اليسار، يتفق معظم المتابعين للشأن الجزائري أن التيارات الكلاسيكية اليسارية تعيش حالة ضعف وتشرذم بسبب الانقسامات العديدة، ومسار السريّة الطويل الذي طبع عملها. هنا يقول الإعلامي لشموت عمار إنه «لا يوجد شيء اسمه تراجع التيار اليساري، لكون هذا التيار لم يكن يمتلك قاعدة شعبية أو اجتماعية، فلقد كان تياراً نخبوياً مع نشاط مكثف على مستوى بعض المناطق الصناعية». وفي ما يخص فشله في التحول إلى رقم أساسي في الموازنات السياسية في البلد، يرى لشموت أن هناك عدة أسباب، منها أن اليسار الجزائري لم يرتبط بنظيره العربي القومي، بل كانت له ارتباطات أيديولوجية وعضوية مع اليسار الفرنسي، خاصة الجيل الأول (لأسباب تاريخية حينما ساندت تيارات من اليسار الفرنسي الحركة الوطنية الجزائرية ووقفت ضد السياسات الإجرامية لفرنسا).
يقول عمار إن التيار اليساري في الجزائر لم يُجرِ مراجعة ذاتية على مستوى البنية الفكرية والعقائدية أو مُجمل التصورات الفلسفية التي يقوم عليها، بالإضافة إلى عوامل دولية، منها تراجع التيار اليساري بمفهومه التقليدي الماركسي، بعدما لم تعد الصراعات الطبقية محور حراك الجماهير الشعبية، مضيفاً: «حتى ما يحدث في اليونان والبرتغال، هي حركات ضد هيمنة المؤسسات المصرفية الأوروبية وليس صراعاً أيديولوجياً بالمفهوم الكلاسيكي، والدليل ذوبان الجماهير الأوروبية شيئاً فَشيئاً داخل التيار اليميني الشعبوي المتطرف».
بالعودة إلى غراس، يرى أن «تراجع الأحزاب اليسارية لا ينفصل عن أزمة البديل اليساري في العالم، وفي الوقت نفسه هو لا يعكس الحيوية المَطلبية للمجتمع والمندرجة تحت عناوين يسارية بامتياز... تداعيات سقوط جدار برلين، وتغول الإسلام السياسي المتواطئ مع الأنظمة والإمبريالية، وهمجية الإرهاب التكفيري الذي عاشته الجزائر في التسعينيات، كلها أسباب ساهمت في إضعاف الصوت الحزبي اليساري».
أما فاتح تيتوش، فرأى أن وضعية اليسار الجزائري عموماً (والتيار اللاّئكي بصفة خاصة) تأثرت جراء القمع في عهد الرئيس السابق الهواري بومدين (رغم أن بومدين نفسه كان يسارياً، لكن بنظرة ستالينية تفرض فكراً وحزباً واحداً»، وهو ما أجبَر التيارات السياسية على النشاط سراً، وتحويل أولوياتها إلى البحث عن سُبل البقاء، ومحاولة دفع السلطة نحو فتح أبواب التعدد السياسي. لكن تيتوش عابَ على الأحزاب اليسارية عدم لجوئها إلى عمل حقيقي يهدف إلى تكوين النخب الشابة، فضلاً عن غياب آليات اتصال فعالة. كذلك يرى أن أهم عوامل ضعف التيار اللاّئكي واليساري نجاح السلطة في حشره في وضعية النقيض «المتشدد» الذي يقابل التشدد الإسلامي، ما يجعل السلطة «حلاً وسطاً» يلجأ إليه المواطن الراغب في تفادي «المتشددين».
هكذا، لم ينجُ اليسار الجزائري كغيره من التيارات من الركود الحاد الذي يعيشه الفعل السياسي في البلاد، إلى حدّ طغى فيه الولاء المغلق والسب والشتم على نقاش الأفكار والمدارس السياسية، مع وجود استثناءات لم تستطع فرض نفسها بعد.