القاهرة | لولا جنوب أفريقيا، لما عاد الإعلام المصري للاهتمام بما يحدث في غزة. منذ انتهاء الهدنة الموقتة، تراجعت بشكل واضح مساحات تغطية «طوفان الأقصى» عبر الشاشات المحلية، قبل أن تقلب تل أبيب الطاولة على القاهرة وتتّهمها بأنها سبب منع المساعدات الإنسانية من المرور عبر معبر رفح. أطلقت إسرائيل اتهاماً مفاجئاً للمحروسة في سياق دفاعها عن نفسها أمام محكمة العدل الدولية في القضية المرفوعة ضدها من دولة جنوب أفريقيا التي تتهم الكيان الصهيوني بممارسة الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في العدوان المستمر على غزة منذ أكثر من مئة يوم. اتهام أحدث ضجة كبيرة في الشارع المصري، فيما انطلقت نكات على شاكلة: «لو لم أكن عربياً لوددت أن أكون جنوب أفريقياً». واستعاد كثيرون صور وكلمات الزعيم الجنوب أفريقي الأشهر نيلسون مانديلا، ووصل الأمر للقول إنّ هناك من سيشجع جنوب أفريقيا في بطولة «كأس الأمم الأفريقية» التي بدأت مساء أوّل من أمس السبت، على الرغم من مشاركة المنتخب المصري.

لولا جنوب أفريقيا، لما عاد الإعلام المصري للاهتمام بما يحدث في غزة (محمد سباعنة ـ غزة)

كل هذا لم يحرّك ساكناً داخل النظام الذي بات يتعامل مع القضية منذ أسابيع عدّة على مبدأ «النأي بالنفس»، وخصوصاً مع انهيار مفاوضات تجديد الهدنة التي تشارك فيها مصر مع قطر عندما يكون لدى الإسرائيليين حاجة إلى التقاط الأنفاس. لكن الاستفاقة حدثت عندما اتهم ممثل إسرائيل في المحكمة الدولية القاهرة بأنّها تمنع المساعدات من الدخول. اتهام غير متوقع يعرف المصريون جيداً أنه غير حقيقي. فأهل المحروسة يدركون أنّ مصر لم تقم بالضغط اللازم في سبيل إدخال المساعدات وتركت لإسرائيل اليد الطولى في ذلك، مع الاكتفاء بالتصريحات والبيانات ومعظمها عبر «مصدر مسؤول»، لا الرئاسة أو وزارة الخارجية. وعندما تكرّر في التصريحات الإسرائيلية «الرسمية» التلويح باحتلال معبر فلاديلفيا، بما يخالف «معاهدة السلام» بين مصر والكيان الصهيوني، جاءت الردود على النسق نفسه. تصريحات تكتفي بالنفي من دون إظهار «العين الحمراء» التي باتت «عمياء» بعد أكثر من 100 يوم من حرب الإبادة. «عمى» تُرجم في قرار واضح بتقليل اهتمام الجمهور بما يحدث عند المعبر، خلافاً للأسابيع الأولى التي كان نظام السيسي يتباهى فيها يومياً بعدد الشاحنات المتوقفة أمام البوابة تنتظر الإذن الإسرائيلي. فجأة بدأ التعتيم وباتت الأخبار عن وصول طائرات مساعدات من الخارج واستمرار الدعم المصري من دون صور، فيما لا يمكن لأحد أن يرصد عدد الشاحنات التي تدخل وإلى أين تذهب وماذا تحمل. في الوقت نفسه، لا تظهر الميديا أي دعم معنوي للمقاومة الفلسطينية، باستثناء «القاهرة الإخبارية» التي تتعامل مع الموضوع بـ «حيادية»، ما دفع الجمهور إلى الاكتفاء بمتابعة قناة «الجزيرة» القطرية. طالت الحرب وتعاملت الإدارة المصرية معها على أنها شأن إسرائيلي ــ فلسطيني داخلي، لكن الصهاينة بارعون في إلقاء التهم حتى على المتواطئين معهم، كما فعلوا عندما أكدوا أنّ دولاً عربية توافق على عدوانهم ضد «حماس»، لكن من دون إعلان رسمي.
ثم وصل الأمر إلى حدّ اتهام القاهرة بأنّها هي التي تمنع المساعدات. هنا، انتفضت المحروسة ممثلةً برئيس «هيئة الاستعلامات» ضياء رشوان الذي وصف الاتهامات بـ «المزاعم»، قبل أن تباشر مواقع صحافية رصد كلّ التحرّكات التي شهدتها منطقة العريش (زيارات أمين عام الأمم المتحدة ورئيسة مفوضية الاتحاد الأوروبي ووزيرة الخارجية الألمانية) التي تدلّ على أنّ «مصر تتيح لمن يشاء الوصول إلى رفح». غير أنّ هذه المواقع لم تلتفت إلى أنّ كل النداءات لتشكيل وفود شعبية بقيادة الأزهر والكنيسة للذهاب إلى هناك وإبداء الدعم، لم تلق آذاناً مصغية وأنّ المسؤولين الغربيين يذهبون إلى استكمال الصورة سياسياً. فماذا ينتفع أهل غزة بهذه الزيارات لتكون دليل براءة؟ وما الفائدة من وجود وزراء ومسؤولين قرب رفح فيما المساعدات لا تمر؟ سؤالان لن يُطرحا على المسؤولين المصريين. حتى لو طُرحا، فلن يلقيا إجابة، بل ستكتفي القاهرة بردودها الفاترة انتظاراً لاتهام جديد من عدو لا يتكلم إلا لغة القوة التي لا تجيدها في المنطقة حالياً سوى المقاومة المستمرّة في الصمود رغم إغلاق المعبر.