القاهرة | في مصر يمكن أن ترى «كلّ حاجة وعكسها»، كما تقول الأغنية الشهيرة. هذا ينطبق بالتأكيد على كلّ تفاصيل السباق الرئاسي الذي انطلق في الخارج بالفعل، على أن يستمرّ في داخل المحروسة على مدى ثلاثة أيام بدءاً من الأحد المقبل، لتكون ثالث انتخابات محسومة مسبقاً لمصلحة الشخص نفسه بعدما رشّح الرئيس عبد الفتّاح السيسي نفسه في عامَي 2014 و2018. ولعلّ الفارق الوحيد هو زيادة عدد المنافسين الوهميّين من واحد في السابق إلى ثلاثة في السباق الحالي.يمكن رؤية «كلّ حاجة وعكسها» في تفاصيل عدّة، بدءاً من تغيّر مفهوم «الصمت الانتخابي» الذي يُفترض سريانه قبل فتح صناديق الاقتراع بـ 48 ساعة. لكن بما أنّ القرار متّخذ بالفعل، وخصوصاً بعد فشل المرشح المعارض أحمد طنطاوي في اللحاق بالسباق، لم يعد هناك من يتكلم عن الانتخابات أصلاً. نحن أمام صمت شبه مطبق، باستثناء بعض البرامج والتغطيات على القنوات «السيساوية» التي تدنّت نسب مشاهدتها إلى ما دون الصفر بسبب اعتمادها سياسة الصوت الواحد منذ سنوات عدّة. الناس لا يشاهدون هذه القنوات طوال السنة، فلماذا سيتابعونها لمعرفة الجديد عن السباق الانتخابي؟ سؤال لا يهمّ كثيراً القائمين على نظام السيسي، فالأبدى هو ملء ساعات البث بتفاصيل تدّعي وجود توازن في التغطية بشكل يثير السخرية، مثل تسجيل لقاء مع «ناخب وحيد» في تركيا يخرج من لجنة الاقتراع في مقرّ السفارة ويؤكد أنّه اختار المرشح المعارض فريد زهران. علماً أنّه على الرغم من أنّ الأخير هو الوحيد المصنّف ضمن المعارضة في هذا السباق، إلا أنّه لم يبذل أي مجهود لتأكيد أنّه معارض بحق وليس ممثلاً في المسرحية الانتخابية. أما حازم عمر وعبد السند يمامة، فيؤيدان السيسي منذ ما قبل الانتخابات، وهو ما دفع الناس إلى تصديق تسريبات عن اقتراح بانسحاب الثلاثة وفوز الرئيس بالتزكية، لكن السيسي رفض ليقنع الدول الغربية بأنّه حريص على سباق حقيقي!
للمرّة الأولى، يزيد عدد اللافتات المؤيدة للرئيس عن عدد مؤيديه الفعليين في الشارع، وتنطلق نكات لا حصر لها تؤكد أنّ خفة ظلّ المصريين لم تنضب، على عكس حال جيوبهم التي خلت من النقود بسبب سياسات المشير الاقتصادية، إذ أُجبرت كل المحال والشركات ورجال الأعمال على إعلان التأييد عبر لافتات باتت أكثر انتشاراً من أطباق التقاط بثّ القنوات الفضائيات على أسطح البيوت. هكذا، باتت صور السيسي تحاصر الناس في الشوارع، بينما هو تحاصره النكات اللاذعة على منصات التواصل الاجتماعي. هناك من يقول إنّ صوره منتشرة لأنّه «تائه»، كما كانت الأسر تفعل سابقاً عندما يضيع أبناؤها. وهناك من يعاتبه لأنّ العلاقة بينه وبين الشعب لا تحتاج التعريف عن نفسه عبر كل هذه اللافتات.
كالعادة، جاءت تغطية «الشاشات السيساوية» لانتخابات الخارج مليئة بالمهازل التي ستتكرر بدءاً من الأحد المقبل. سيدات فاقدات للوعي السياسي يصنّفنه بـ «عزيز مصر»، ومشهد مؤثر لمواطن مصري في الكويت يقصد السفارة واضعاً جهاز تنفّس اصطناعي. مع ذلك، لم تفلح الصور في تأكيد الإقبال، ما يزيد من مشقّة مهمّة القنوات في نهاية الأسبوع الحالي. من خمسين مليون مصري على الأقل يملكون حق التصويت، وفيما ترفض الطبقتان الوسطى والعليا الوضع الداخلي، في الوقت الذي ستُحجم فيه الطبقة الدنيا عن الاقتراع، إلا إذا تقاضت أموالاً، كيف ستغطي القنوات هذه المعضلة على مدار ثلاثة أيام؟
ربما لو أدرك نظام السيسي أنّه ليس بحاجة للتغطية، لما برزت كلّ هذه المبالغات. لكن لا بديل عن إظهار أنّ هناك إقبالاً شعبياً على الانتخابات لضمان الشرعية، ما سيدفع بالشاشات إلى ارتكاب جرائم إعلامية متوقّعة، سواءً في تصوير الناخبين من زاويا محدّدة لتأكيد الإقبال، أو ادعاء أنّ الإعلام المعارض يتعمّد إظهار مقارّ اللجان خاوية في أوقات لا تشهد أصلاً إقبالاً، مع توقعات بتسهيل عملية الانتخاب من دون الالتزام باللجان المحدّدة مسبقاً، ما يفتح الباب أمام اتهامات بالتزوير سيقابلها أنصار السيسي بالتخوين.
إذاً، مهزلة انتخابية تشهدها المحروسة الأسبوع المقبل، كان ممكناً أن تخف وطأتها لو لم يستغلّ النظام العدوان الإسرائيلي على غزة لإخماد نار السباق الانتخابي باكراً، واستبعاد أي مرشّح حقيقي يمكنه أن يدفع الناس إلى النزول والحصول على نتيجة متوازنة تضمن تعهداً من الرئيس المفروض بالقوّة لمراجعة سياساته الاقتصادية والاجتماعية، بدلاً من الإصرار على السير في نفق لا ضوء في آخره.