منذ إطلاق ChatGPT أواخر العام الماضي، يبدو كأنّنا دخلنا كوناً موازياً تتقدم فيه التقنية بشكل لا يصدق، من كتابة النصوص والبريد وسطور البرمجة إلى إنشاء الصور. هذا بابٌ فُتح ولن يغلق أبداً. وآخر التطورات، انطلاق العمل بفكرة أن يكون الذكاء الاصطناعي أستاذاً للطلاب ومساعداً للمعلمين. تخيّلوا، أستاذ رقمي لكل طالب، يتابع الدروس والواجبات المنزلية في كل المواد الدراسية. فماذا يعني هذا التقدم لمفهوم التعليم وشكله؟ وأين نحن في لبنان منه؟في حديث له عبر منصة Ted Talk، قال سال خان، وهو مدرّس بنغلادشي ــ أميركي ومؤسّس «أكاديمية خان» ومدرسة «خان لاب» (موقع إلكتروني يقدّم دروساً مجانية للطلاب)، إنّ الذكاء الاصطناعي يمكن أن يطلق أعظم تحوّل إيجابي شهده التعليم على الإطلاق، متحدّثاً عن روبوت دردشة جديد أسماه «خانميغو»، سيبدأ عمله كمدرّس رقمي من خلال الموقع الإلكتروني قريباً.


«خانميغو» روبوت مدرّس يعتمد على الذكاء الاصطناعي، وعلى عكس ChatGPt وGPT-4، فهو لا يعطي التلميذ أو الطفل الإجابة، بل يساعده على التفكير في كيفية الوصول إليها. مثلاً، إذا طلب التلميذ منه حلّ معادلة في الرياضيات، فيرد عليه الروبوت: «برأيك ما هي الخطوة الأولى لحلّ هذه المعادلة؟» أو «أكتب الخطوات التي أوصلتك إلى هذا الحل». وفي حال الخطأ، يطلب الروبوت من التلميذ شرح أسباب اختياره لهذه الخطوة. فالهدف هو توجيه الأطفال إلى الإجابات وليس تقديمها. ويمكنه مساعدة التلميذ في توضيح خياراته العلمية أو بمعنى آخر، يمكنه أن يكون مدرّباً ورفيقاً أكاديمياً ومهنياً وحياتياً.
ويحاكي «خانميغو» علاقة التدريس بين الطالب والأستاذ «بطريقة لم نتمكّن من تصوّرها منذ عام حتى». مثلاً سيتمكن الروبوت من أن يسأل التلميذ عن قصد الكاتب في جملة أو فقرة معينة من النص الذي يقرأه. وكذلك، سيساعد التلميذ في كتابة نصه عبر إعطائه توجيهات لكيفية الكتابة، وسيصبح باستطاعة هذا الروبوت أن يعطي رأيه بالقصة التي كتبها التلميذ، وأن يشير إلى الفقرات أو الجمل التي لا تخدم قصته ليحفزه على تحسينها أو تغييرها. كذلك، يمكن للأساتذة أيضاً الإفادة من «خانميغو» في وضع خطط دراسية، وتحضير الدروس وغيرهما من الأمور.
كيفية إدخال الذكاء الاصطناعي إلى التعليم، هي الشغل الشاغل لكبريات الجامعات والمدارس حول العالم. إذ يتركّز النقاش الدائر حو أبرز الطرق للإفادة منه بأكبر قدر ممكن. ويعتقد أساتذة عديدون أنّه يمكن استخدام روبوتات الدردشة للمساعدة في تطوير التعليم والتعلّم. وأخيراً، دمجت شركات التكنولوجيا التعليمية، بما فيها Duolingo و Quizlet، التي يستخدمها نصف طلاب المدارس الثانوية في الولايات المتحدة، روبوت الدردشة الخاص بـ OpenAI في تطبيقاتها.
في هذا الإطار، يقول المتحدث باسم OpenAI، نيكو فيليكس، لـ «تكنولوجي ريفيو»: «نحن نتعامل مع المعلّمين في جميع أنحاء أميركا ليكونوا على دراية بقدرات ChatGPT، وبالتالي بإيجابيات وسلبيات استخدام الذكاء الاصطناعي وكيفية إدخاله إلى عملية التعليم». وتقول الشركة إنّها استشارت معلمين عندما طوّرت أداة مجانية لاكتشاف النص الذي كُتب عبر روبوت الدردشة، بعدما أصدرت جامعات عدّة في المملكة المتحدة، كـ «كامبريدج»، تحذيرات للطلّاب من استخدام ChatGPT بهدف الغش. ويرجع ذلك إلى مخاوف تتعلّق بالعدالة بين الطلاب وتكافؤ الفرص. في المقابل، يرى الرئيس التنفيذي لـ«الجمعية الدولية للتكنولوجيا»، وهي منظمة غير ربحية تدافع عن استخدام التكنولوجيا في التدريس، ريتشارد كولاتا، أنّ «حظر هذه البرامج عديم الجدوى، وقد يؤدي إلى نتائج عكسية».
من الواضح أنّ القطاع التعليمي لا يزال مربكاً في كيفية تعاطيه مع هذه المسألة، وخصوصاً أنّ التغيّر السريع الذي تفرضه التكنولوجيا ليس مريحاً. ومن جهة أخرى، يكمن الخوف الأكبر في عدم قدرة المؤسّسات التعليمية على مواكبة التغيرات المتسارعة، ما سينعكس سلباً على أجيال بأكملها.
فيما يواجه التعليم تحديات كبرى في عملية التحوّل عبر دمج الذكاء الاصطناعي في المناهج الدراسية، كيف سيتعامل القطاع التربوي في لبنان مع ما يجري؟
يشرح رئيس قسم تكنولوجيا المعلومات في الأمانة العامة للمدارس الكاثوليكية في لبنان، جوزيف نخلة، لـ «الأخبار» أهمية إدخال الذكاء الاصطناعي في عملية التعليم والتعلّم. ويرى أنّنا «ذاهبون نحو عالم جديد، وبالتالي على الإنسان أن يتأقلم مع التغيرات الجديدة التي ستطرأ علينا... على المدارس أن تربّي أجيالاً تستطيع إيجاد نفسها في هذا العالم... وفي حال اعتمادنا على المناهج القديمة، فإننا نرتكب جريمة بحق الأجيال الصاعدة».
وعن طريقة دمج الـ AI في المناهج الدراسية، يوضح نخلة أنّ المدارس الكاثوليكية تدرّب الأساتذة والتلاميذ على كيفية استخدام برامج وتطبيقات عالمية جاهزة تختص بالتعليم في المدارس، وأجددها برنامج Dugga، بالإضافة إلى إقامة ورش عمل خاصة لنشر التوعية بطرق الاستخدام الصحيحة للتكنولوجيا في التعليم وللإفادة من كل البرامج المتاحة: «لا يمكننا اليوم أن نوقف عمل روبوت دردشة لأنّنا نخاف عواقب استخدامه، بل علينا وضع قواعد وشروط لتأطير استخدام تلك الروبوتات إن كان من قبل التلاميذ أو حتى الأساتذة».
من جهته، يؤكد الخبير في التحوّل الرقمي، بول سمعان، في حديث معنا أنّ تطبيق عملية التحوّل الرقمي في القطاع التربوي ضروري في لبنان، بهدف بناء أرضية متينة لإدخال التكنولوجيا الجديدة والذكاء الاصطناعي إلى المناهج، مشيراً إلى إمكانية العمل على الأمرين معاً. ويعتبر أنّه «لا نزال في مرحلة العمل على إدخال التكنولوجيا إلى المناهج التعليمية بسبب العائق المادي الذي يقف أمامنا، فكل ذلك يتطلّب تمويلاً، وخصوصاً أنّنا نمر بظروف اقتصادية صعبة، فعدد المؤسسات التي بدأت بالتحوّل الرقمي في لبنان لا يتخطى أصابع اليدين». ويتابع: «ليس سهلاً أن نغيّر منهجاً كاملاً إن كان في المدارس أو حتى الجامعات، إذ يحتاج ذلك لدارسة وموافقة من القائمين على القطاع التربوي». ويذكّر سمعان بأحد المؤتمرات التي أُجريت أخيراً في لبنان بمشاركة مؤسسات التعليمية، وتناقش الحاضرون حول دراسة الخطوات التي تساعد في دمج التقنيات التكنولوجية الحديثة والذكاء الاصطناعي في عملية التعليم والتعلّم، مضيفاً: «تنظّم بعض الجامعات في لبنان دورات تدريبية حول الذكاء الاصطناعي تراوح مدّتها بين ثلاثة وأربعة أشهر، بهدف توعية الطلاب باستخدام الذكاء الاصطناعي». وبصفته أكاديمياً، يقول سمعان: «لا يمكن للأستاذ اليوم أن يعتمد على إجابة الطالب الجاهزة والمكتوبة، بل عليه أن يختبره من خلال مناقشة ما كتبه وتحليله. قريباً سنكون في مكان مختلف تماماً في ما يتعلق بهذا الموضوع حتماً».
لكن هل هناك فعلاً تجارب فعلية لدمج هذه التقنيات في المناهج اللبنانية؟ يجيبنا المستشار في «المركز التربوي للبحوث والإنماء» والأستاذ المحاضر في الجامعة اللبنانية، هشام الخوري، بأن استخدامها يعتبر من النظريات، لكن بعض المدارس يستخدم «أنظمة تعلم ذكية» كمنصات تساعد الإدارة والأساتذة على تنظيم عملية التعليم. على سبيل المثال، يتمكّن الأستاذ من معرفة توقيت إجراء الطالب للفروض المنزلية، كما يمكن لتلك الأنظمة أن تشير إلى خطأ التلميذ وتنبّهه إليه. هكذا، يكون الـ AI قد دخل بطريقة غير مباشرة: «هو وسيلة في التعليم ويجب تغيير المنهج ليتكيف مع الوسائل الجديدة بطبيعة الحال».
وبما أنّ «المركز التربوي للبحوث والإنماء» يدرك أهمية الموضوع، فشكّل لجنة كان الخوري ضمنها، لدراسة كيفية الإفادة من مفهوم الذكاء الاصطناعي في عملية تطوير المناهج التي يتم العمل عليها بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم العالي لمرحلة ما قبل الجامعة، ودعم الأستاذ والإدارة في الوقت نفسه. وفي مؤتمر عرض الأوراق المساندة للإطار الوطني لمناهج التعليم ما قبل الجامعي، أشار وزير التربية، عباس الحلبي، إلى أنّ «الإطار الوطني اللبناني لمنهاج التعليم ما قبل الجامعي، أكد مواكبة التحديث في التربية بكل شفافية، ووضع طرق تعليم جديدة في كل المجالات، لتتماشى مناهجنا مع حاجات سوق العمل، وتهدم الحواجز الفاصلة بين المدرسة والمجتمع، وتحرير الإبداع ودعم الابتكار من خلال الغوص في عالم التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي». فبرأي الخوري «لا تستطيع المدارس أن تدخل الذكاء الاصطناعي في المنهج وحدها إلا إذا استوردت منهجاً، أو أن تبني منهجاً كما نفعل اليوم في المركز التربوي والوزارة».
يعمل «المركز التربوي للبحوث والإنماء» على تطبيق قانون إلزامية إدخال تقنيات الـ AI إلى التعليم


وتجدر الإشارة إلى أن «المركز التربوي للبحوث والإنماء» يعمل على تطبيق قانون إلزامية إدخال المعلوماتية وتقنيات الذكاء الاصطناعي إلى عملية التعليم، بحسب الخوري الذي يوضح أنّ الوزير «طلب من اللجنة بالتنسيق بين الوزارة والمركز التربوي وضع خطة لـ 50 مدرسة في لبنان لتطبيق هذا القانون بهدف الإفادة من التجربة في المناهج التعليمية ولتطبيق القانون».
كذلك، يعتبر نقيب تكنولوجيا التربية في لبنان، ربيع بعلبكي، أنّ وجود النقابة اليوم أساسي لتصويب عملية دمج الذكاء الاصطناعي في المناهج التربوية في البلاد. إذ وُضعت في المناهج الحديثة أهداف لإدخال البرمجة ولتعليم المواطنة الرقمية كما الأمن السيبراني. ويرى أنّ استخدام الذكاء الـ AI بحاجة لقوننة صحيحة ورقابة، إذ يمكن لأي شخص اليوم أن يستخدم التكنولوجيا (طائرة الدرون مثلاً) لتنفيذ عملية اغتيال أو سرقة، ويمكنه أيضاً أن يستخدمها للمساعدة في إطفاء الحرائق أو رش المبيدات وغيرها.
وبعد التركيز العالمي على الذكاء الاصطناعي والبرمجة، استبدلت بعض المدارس في لبنان، في السنوات السبع الأخيرة، مادة المعلوماتية بالبرمجة، وأدخلت مدارس أخرى مادة «الروبوتيك» إلى مناهجها، بالإضافة إلى إنشاء أندية مخصصة لها. ومن الملاحظ أنّ المدارس الخاصة هي الأنشط في هذا المجال، ويعود ذلك إلى حصولها على تمويل ودعم مادي أكبر من تلك الرسمية. في المقابل، يشير بعلبكي إلى أنّه لا عذر لعدم تعليم البرمجة اليوم، لأنّ المصادر المفتوحة متاحة دائماً، أكان على مستوى لغات البرمجة مثل Scratch وPython أو Microbat Software.
في المقابل، يرى نائب رئيس «جامعة العلوم والآداب اللبنانية»، أحمد فضل الله، أنّ كل ما يقال اليوم عن دمج الذكاء الاصطناعي في المناهج التعليمية في لبنان هو مبادرات صغيرة لمحاولة الإفادة من التكنولوجيا واللحاق بالركب العالمي إلى حد ما: «نحن لا نزال في مرحلة استيعاب الصدمة»، في إشارة إلى التطوّر السريع في هذا المجال. لا استراتيجيات تحوّل رقمي داخل المناهج اللبنانية لننتقل إلى مرحلة دمج الذكاء الاصطناعي بعملية التعليم والتعلم، ولغاية اليوم لا يوجد في البلاد من أدخل الذكاء الاصطناعي في المجال التعليمي بشكل صحيح ومنظّم. «التحدي الأكبر اليوم هو كيف سنحوّل التهديد إلى فرصة»، يقول فضل الله، مضيفاً «علينا أن نفكّر كيف سنوظف تلك البرامج التي يستخدمها الطالب لصالحه»، متوقعاً أن ينشط الحديث عن تقنيات الدمج في المستقبل القريب.
ووفق فضل الله، لا يمكن للمؤسسات التعليمية اليوم أن تعتمد على تقييم الطالب من خلال الأبحاث التي يكتبها في المنزل فقط، فليس لدى كل المؤسسات القدرة على شراء أنظمة لكشف مصدر ما كتبه الطالب وما إذا كان بمساعدة روبوت الدردشة أم لا.
إذاً، ليست مهمة الأستاذ ولا حتى الإدارة أن تدخل التقنيات الجديدة إلى عملية التعليم والتعلم، فذلك بحاجة إلى تغيير منهج بأكمله، وبالتالي نحتاج لوقت ليس بقصير لنصل إلى الأرضية التي تخوّلنا استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في مؤسّساتنا التعليمية الرسمية والخاصة.