من ذرى القلمون، وتحديداً من دير عطية البلدة الوادعة على جانب الطريق الدولي دمشق حمص، بطريقة عمرانية أنيقة تشعرك بأنّك صرت فجأة خارج سوريا. وربّما تأخذك بمحاكاة سريعة نحو الريف الأوروبي. من هناك، اندلعت رحلة حياة الصّحافي والكاتب السوري وليد معماري (1941 ــ 2021) ليهبها عن كامل إصرار وتصميم لغيره بالمطلق. أعاد تشكيل مفرداتها، وصاغها كمذكّرة دفاع طويلة عن الفقراء والمسحوقين! كأنّه كان يمتثل للقواعد والقيم والنظريات النبيلة في أدبيات حزبه الشيوعي! أسّس في جريدة «تشرين» الرّسمية زاوية «قوس قزح» على الصفحة الأخيرة. فصار وسامه الذي سبقه بالتعريف عنه. وإذا بهذه المرافعة اليومية دفاعاً عن الحق، بلغة التهكّم والسخرية، تدخل كلّ بيت سوري، خاصة عندما كان للصحافة وزن، أي قبل أن تبدّد السوشال ميديا جزءاً كبيراً من قيمتها! كتب معماري آلاف الزوايا، فصارت لغته هوية، ومفاتيحه الكلامية علامة فارقة لدى قرّائه ومعجبيه ومريديه. لن نُبالغ بقول مثل ذلك، لأنّه فعلياً كان سبباً وجيهاً، وحقيقياً لحرف مسار مجموعة من الصحافيّين السوريّين نحو هذه المهنة، وهو ما أدلى به عدد من الصحافيّين السوريّين المكرسين عشيّة وفاته مساء أوّل من أمس على حساباتهم الافتراضية. الليلة التي اشتعل الفايسبوك السوري باسمه مع استحضار قصص من سيرته المهنية الرصينة بالجوهر والمبدأ، والساخرة بالأسلوب والطريقة. لعلّ المشهد الأبرز بالنسبة لمن كان يؤثر بهم، هو ذلك الدرج الطويل المعتم في شارع العابد الدمشقي، الواقع بالضبط على الرصيف المقابل لمجلس الشعب قبل مقهى الروضة بأمتار، أي في المكان الذي يفترش فيه عادل أقدم بسطة صحف سورية، كان يتوزع على الدرجات الباردة يومياً عدد من طلاّب الإعلام والصحافيّين المبتدئين والمهتمّين بالثقافة عموماً، يستعيرون المجلّات والدوريات، وبعض الكتب غالية الثمن أو بعض الصحف العربية، ليتناوبون على قراءتها، ثم إعادتها لصاحب البسطة المتواطئ معهم. لكن جميع هؤلاء كانوا على استعداد لشراء جريدة «تشرين» فقط عندما يكتب في صفحتها الأخيرة وليد معماري. الجريدة التي كانت تُباع بخمس ليرات سورية، صنع لها معماري قيمة حقيقيّة عندما حوّلها لساتر دفاعي يذود فيه عن قضايا الناس الصغرى وأحوالهم، التي لا يسأل فيها أحد! المنطق ذاته حمله على ظهره وانتقل فيه من منبر إلى آخر، من بينها جريدتَيْ «صوت الشعب» و«الدومري»، خلقت صدمة لدى الشارع السوري عند صدورها مطلع القرن الحادي والعشرين!ربّما يكون مشوار الراحل مع الصحافة هو الأنضج والأكثر قرباً من الناس، بينما سار على سجيّته في القصة القصيرة الساخرة وأبرز مؤلّفاته في هذا الإطار كانت «حكاية الرجل الذي رفسه البغل» فيما عمل بصيغة مغايرة على أدب الأطفال وألّف مجموعة كتب لهم، لتكون اللّغة بمثابة بحث العين الثالثة خلف الكواليس في السيناريو السينمائي «شيء ما يحترق».