ليس من قبيل المصادفة أن تخرج علينا كل من «بي. بي. سي» البريطانية، و«سي. أن. أن» الأميركية في الشهر نفسه بروايات عن حالات «اغتصاب وسوء معاملة وتعذيب» وُصفت بالمروّعة، لنساء من الإيغور قيل بأنّهن كنّ محتجزات في «معسكرات الاعتقال» في الصين. هذا التزامن يدعو حتماً للريبة، وهو الآتي من مواقع وقنوات الإعلام الغربي نفسها التي تتجاهل عمداً محن العشرات من الشعوب وفي مقدمتها الشعب اليمني، بل غالباً ما تلعب دور رأس الحربة في حروب تقتل وتشرّد الملايين من المواطنين العزّل. يقودنا هذا التركيز والتعاطف الإعلامي مع قضية الإيغور إلى علامات استفهام عديدة تبدأ بـ: لماذا هؤلاء تحديداً ولا تنتهي عند مسألة التوقيت. في عام 2019، كتب الصحافي الاستقصائي الروسي الأميركي الراحل أندريه فلتشيك في موقع «غلوبال ريسيرش» مقالاً عن هذا الموضوع (أعيد نشره في تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 2020)، قال فيه إنّ مشكلة الإيغور، ببساطة، هي أنّ أورومتشي عاصمة شينجيانغ، تقع على الفرع الرئيسي لمبادرة الحزام وطريق الحرير الجديد. وهو مشروع بنية تحتية عملاق لتواصل اقتصادي وثقافي دولي متفائل للغاية يمكّن من ربط مليارات الناس من جميع القارّات على نحو شأنه أن يُخرج مئات ملايين البشر من الفقر. وتشعر واشنطن بقلق شديد من أن تأخذ الصين زمام المبادرة في بناء مستقبل أكثر إشراقاً للبشرية، لأنّ نجاح مشروع طريق الحرير قد يكون بداية النهاية للإمبريالية الغربية والاستعمار الجديد. أمر سيؤدي إلى تحسين شروط الحرية والاستقلال الحقيقيين لدول عديدة، تنوء تحت جبروت الإمبراطوريّة الأميركية. ويضيف فلتشيك: «لذلك، كان لا بدّ للإمبراطورية من أن تتحرّك للحفاظ على الوضع الراهن، وبسط هيمنتها على العالم بتبنّي سياسات استعداء وتهديد واستفزاز للصين، وتشويه سمعتها بكل الوسائل، وإثارة المشاكل السياسية والأمنيّة لها في أماكن عدّة في وقت واحد: هونغ كونغ، تايوان، بحر الصين الجنوبي، وبالطبع مسألة الإيغور». بالتالي، فمعالجة قضية من هذا النوع تستوجب فهماً مغايراً عما هو سائد في سرديات الإعلام العالمي، يجنّبنا انسياقاً أعمى خلف مزاعم مشكوكة المصداقية مصدرها الماكينة الإعلامية الغربية الضخمة. ففي ظل الحرب التنافسية المستعرة بين الصين والولايات المتحدة، ليس مستغرباً أن تستخدم الأخيرة ترسانة الإعلام التي لها باع طويل وخبرة كبيرة في مجال الدعاية السياسية خدمة لأجندات سياسية معروفة. وهو بالضبط ما فعلته في جميع الحروب التي خاضتها مسبقاً، سواء كان ذلك في فيتنام أو في أفغانستان أو في العراق أو في سوريا أو حتى في مواجهتها الحالية مع إيران. فالدعاية التي هي «التأثير على آراء ومعتقدات الجماهير ومحاولة تهيئة الأفراد لقبول وجهات النظر التي تدعو لها، والتي قد تلجأ إلى تشويه الحقائق وتحريفها» أداة أساسية اليوم من أدوات السياسة الخارجية في حالتَي السلم والحرب. وما عاد ممكناً أبداً فصل أي خبر سياسي في الإعلام عن سياق الحرب الإعلامية التي يأتي في سياقها، والتي قد تسبق في كثير من الأحيان إعلاناً للحرب، وتمهّد لها.
وسواء اتخذت تلك الحرب شكل المواجهة العسكرية أو اكتفت بطابع الحروب الباردة، فإنّ أساليب الدعاية السياسية تبقى حاضرة وإن اختلفت بشكل طفيف. فمنذ أن أعلنت الولايات المتحدة قبل سنوات عدة عزمها على التوجه نحو آسيا، بدأت الحملة الإعلامية الأميركية خصوصاً، والغربية عموماً، عملها الدؤوب ضد الجمهورية الشيوعية. هكذا، بدأت تبرز أكثر فأكثر العديد من الأخبار المتعلقة بالشؤون الصينية كالصراعات في بحر الصين الجنوبي، والخلاف مع تايوان، والتظاهرات في هونغ كونغ (نالت حصة وافرة من التغطية الإعلامية المستفيضة، ففتحت أمامها ساعات البث المباشر أياماً متواصلة). هذا التركيز جعل الصين مادة يومية على القنوات التلفزيونية وفي الصحف والمواقع الإلكترونية لانتقاد سياسات الصين الداخلية والخارجية ولتوجيه اهتمام الرأي العام المحلي والعالمي نحو قضايا بعينها، تماماً كما تقترح نظرية ترتيب الأولويات. إذ يختار القائمون على وسائل الإعلام بعض الموضوعات التي يتم التركيز عليها بشدة والتحكم في طبيعتها ومحتواها.
نحن في الإقليم عهدنا هذه الأساليب واختبرناها في جميع الحروب الأميركية على المنطقة، سيّما تلك الأخيرة في سوريا. في الفصل الثاني من كتابهما «تخريب سوريا: كيف صنعت المخابرات الأميركية عصابات الكونترا والمنظمات غير الحكومية» الصادر عام 2012، ألقى توني مارتالوتشي ونايل بوي الضوء على حملة الدعاية الإعلامية التي شنّتها وسائل الإعلام الغربية على سوريا وحرّفت فيها الصراع، وكيف استخدمت أخباراً وتقارير زائفة. وكرّرت بلا كلل رواية أن «الأسد ديكتاتور وحشي يقتل شعبه». وفي الإطار نفسه، لفت الكاتب البريطاني جوناثان ستيل في مقال كتبه في صحيفة الـ «غارديان» خلال السنوات الأولى من الحرب إلى أساليب الدعاية الإعلامية (ومنها التعتيم) التي انتهجها الإعلام الغربي مع الأزمة، فقال بأنه رغم أنّ «معظم السوريين يؤيدون الرئيس بشار الأسد، إلا أن الإعلام الغربي لا يُظهر ذلك أبداً. وهكذا، فإن شعبية الأسد ومراقبي الجامعة العربية والتدخل العسكري الأميركي، كلّ ذلك مشوّه في حرب الدعاية الغربية».
طريق الحرير الجديد مشروع بنية تحتية عملاق يُشعر واشنطن بقلق شديد

ستيل الذي خصّص مقاله للحديث عن استطلاع رأي أظهر شعبية كبيرة للأسد تساءل في سياقه: «أليس توصل استطلاع رأي موثوق إلى أن معظم السوريين يؤيدون بقاء بشار الأسد كرئيس خبراً هاماً، خاصة أنّ النتيجة تخالف الرواية المهيمنة عن الأزمة السورية؟». لكن ستيل ما لبث أن أضاف: «للأسف ليس في كل حالة. فعندما تتوقف تغطية دراما عن كونها منصفة وتتحول إلى سلاح دعائي، فإن الحقائق المزعجة تُقمَع».
في الحقيقة، لم تتوانَ أجندة الإعلام الغربي عن استخدام أي تهمة متاحة في بثّها للأكاذيب، فسوّقت صورة الجهاديين المسلحين بـوصفهم «ثـوّاراً معتدلين»، لتجنّب حقيقة أنهم في معظمهم إرهابيون غرباء عن سوريا، وقد أتَـوا إليها من بلدان شتّى، بتسهيل من أجهزة الاستخبارات الدول المتواطئة وغيرها الكثير من المزاعم المضلّلة.
بالعودة إلى قضية الإيغور، إنّ أساليب مشابهة لتلك التي رأيناها في مختلف الحروب الإعلامية السابقة، قد بدأت بالظهور تباعاً. وفيما لا يزال أمام البروباغندا السياسية المتعلقة بالصين طريق طويل، حيث طبيعة الشعوب مختلفة والجماهير المحلية الغربية لا تزال غير مقتنعة بالتوجه الاستراتيجي لسياسات حكومتها، فإنه من المرجّح أن نشهد مزيداً من التصعيد الإعلامي. فقد أظهر استطلاع أجرته مؤسسة «أوراسيا غروب» أخيراً، لفتت إليه صحيفة «ناشونال انترست»، أنّ معظم الأميركيين «يفضلون خفض الوجود العسكري الأميركي في الخارج» للرد على الصين، مفضلين الاعتماد على الحلفاء الإقليميين في آسيا، بمساعدة طفيفة من قبل القوات الأميركية. وفي مواجهة هذا التصعيد المتوقّع، في هذه القضية وغيرها من الملفات العالمية الأخرى، يجدر بنا أن نطور طريقة قراءتنا للأخبار في إطار سياقها الأوسع، وتجربتنا الخاصة، وعلينا قبل أن نتخذ موقفاً ـــ أياً كان ـــ أن نتذكّر كيف قرأنا العالم ذات مرة ولا يزال، وبالتالي قبل تلقّف أي معلومة والخروج بالخلاصات: فكّر مرتين.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا