منذ وقوع تفجير المرفأ أو ما سميّ بـ «الثلاثاء الأسود»، وأنظار العالم أجمع، متّجهة إلى بيروت المنكوبة والمجروحة. استقدمت فرق صحافية عربية وأجنبية واستوطنت في العاصمة اللبنانية، ومعها عشرات الأطنان من المساعدات الطبية والغذائية. ظنّ كثيرون أن الوجهة ستبقى إعلامياً ــــ ولو لأيام قليلة بعد هذه الفاجعة ــــ في مسرح المرفأ ومحيطه، وفي تعقّب المفقودين وسماع قصص الناجين أو نقل جنازات الشهداء. لكن منذ يوم الخميس أي بعد يومين من انفجار المرفأ، بدأت تتبدى سلوكيات مختلفة لدى بعض وسائل الإعلام، أعطت إشارات واضحة عن مرحلة ما بعد الانفجار. أول من أمس، وعقب ما سميّ بــ «سبت المشانق»، تبدّى مشهد إعلامي مستجد نسف كل المشهدية السابقة التي فتحت الهواء طيلة ساعات النهار لحادثة تفجير المرفأ، ولعوائل الشهداء والجرحى، ولتعقب سير عمليات البحث عن المفقودين. نهار السبت الفائت، كنا أمام تظاهرة شعبية دعت إلى تعليق مشانق للسياسيين والمتورطين في الجريمة، وإذ بهذا المشهد ينقلب فجأة، مع جنوح كاميرات التلفزة عصراً صوب وسط بيروت، وتحديداً «ساحة النجمة» حيث حاول متظاهرون اقتحام «مجلس النواب»، ونجح بعضهم في إحداث ثغرة والتصادم مع القوى الأمنية. تدرحج المشهد إلى بعض الوزارت التي تم اقتحامها من قبل المتظاهرين والعبث بأوراقها، على رأسها «وزارة الخارجية» التي أعلنها «الثوار» مقراً لهم ونشروا على شرفتها لافتة ضخمة كُتب عليها «بيروت منزوعة السلاح».
الخبير في تصميم الإعلانات سامي صعب راح يتحدث عن رمزية وزارة الخارجية بالنسبة إلى «المجتمع الدولي»

التغطيات الإعلامية المتلاحقة، لم تفسّر للمشاهد إلى من تتوجه هذه اللافتة، أو أقله لم يناقش المراسلون هؤلاء «الثوّار» في مسألة ادعائهم بأنّ هذا الشعار قاله الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في زيارته لبنان! يمكن الدخول من خلال هذه الحادثة، إلى أداء المراسلين ووسائل الإعلام اللبنانية التي انقسمت بفعل الحدث البيروتي، وأعيد اصطفافها كما حصل إبان انتفاضة «17 تشرين»، فيما عزّزت القنوات الباقية من وجودها في الساحات، ومنحت شاشاتها مزيداً من الزخم والشحن. بدأ هذا الزخم بإعلان بعض القنوات امتناعها عن نقل تصريحات السياسيين ودردشاتهم، كنوع من دخول الموجة بطريقة شعبوية. هكذا، أفاقت هذه القنوات بعد يومين من التفجير الأليم، لتقرّر إعطاء الشعب المكلوم مساحة للكلام والتعبير، وإقفال المنابر بوجه الساسة، ولم تنتهِ أول من أمس مع إطلاق شعارات عشوائية، كما فعلت mtv، التي هرعت سريعاً، إلى وضع عبارة «تحقيق دولي» على يسار شاشتها، وأطلقت على ما حصل نهار السبت: «انتفاضة 8 آب». هكذا، يُستسهل إطلاق العبارات، من دون الدخول بشكل أعمق في ما حصل أول من أمس. إذ كان جلّ المراسلين، لا سيما من mtv و «الجديد» وlbci، يمارسون أدوار شهود الزور في التغطيات التي حصلت كلحظة اقتحام الوزارات، أو الصدامات التي حصلت مع القوى الأمنية في وسط بيروت. تسارع الأحداث أسهم في حجب التفكير عما يتداعى أمام المُشاهد على تلك الشاشات، من صور كأنّها «ممسرحة»: اقتحام، فتغطية، ولا سؤال من أي مراسل في مكان الحدث عمّا يحصل وعن كيفية حصوله! يمكننا هنا استذكار حادثة اقتحام «وزارة الخارجية» والنقاش القصير الذي دار بين مراسلة «الجديد» والخبير في تصميم الإعلانات سامي صعب، عندما أكدت له أنّ هذا الاقتحام لا يحتاج إلى «إخراج»، فأجابها: «كان بدو شوية اخراج». بعدها، راح يتحدث عن رمزية الوزارة لـ «المجتمع الدولي». يمكن هنا، استشفاف صمت المراسلة عما يعني التوجه إلى «المجتمع الدولي»، وثانياً، غياب تعليقها عن «الإخراج الفني» الذي حصل، وأبرزه جهوزية اللافتات الضخمة التي عُلّقت على واجهة المبنى.
مراسلة «الجديد» كما غيرها، من المراسلين، راحوا طيلة تغطية نهار السبت، يتحدثون وينقلون صورة لم يشاهدها المتابع على الشاشة، وكانت عبارة عن استماتة في تجزئة الحدث، وشيطنة قوى الأمن، واتهامها باستخدام الرصاص الحيّ (أمر استدعى نفياً منها) واعتبار أنّ كل ما نشاهده من حرائق وتحطيم وشتائم مجرد ردة فعل غاضبة في الشارع، واستكمال لـ«انتفاضة 17 تشرين»، من دون إجراء أي نوع من المراجعة أو المساحة النقدية والموضوعية مما حدث، فذهبت الأمور إلى ما ختمت به مقدمة mtv، في تلك الليلة: «الثوار على حق: الآن الآن وليس غداً، فلتعلّق المشانق». حتى إنّ قناة «المرّ» نشرت للمرة الأولى، عدداً كبيراً من مراسليها في وسط بيروت (وصل عددهم الى خمسة: منى صليبا، آلان درغام، جويس عقيقي، نخلة عضيمي، جويل قزيلي)، في فائض واضح عن حاجة هذه المساحة إلى التغطية. لكن يبدو أنه من زمن التحشيد. فيما اكتفت lbci بارسال ثلاثة من طاقمها: بترا أبو حيدر، واحمد عبد الله، وأدمون ساسين الذي أصيب في رأسه ونقل إلى المستشفى.
كنا نهار السبت، أمام خطوة صغيرة، كادت أن تودي بالبلد إلى حافة الفتنة الأهلية، التي تراقصت في ذاك النهار، وأوقفها عقلاء وقوى أمنية، على متاريس بيروت المستجدة، بعد انتشار للشتائم ولصور تخص قادة سياسيين علّقت مشانقهم على شاكلة مجسمات، فيما كانت القنوات طيلة النهار حتى انتهاء هذه «الهمروجة» تسمعنا كماً هائلاً من الشتائم، كان واضحاً أنها موجّهة لشخصيات محددة دون غيرها. وليست حادثة استشهاد أحد عناصر القوى الأمنية في أحد فنادق العاصمة في وسط بيروت، سوى عينة واضحة عن حجم التضليل. لعلّ المحطة التلفزيونية الأبرز في هذا المجال كانت «الجديد» التي نقلت روايتين متناقضتين عن استشهاد هذا العنصر، فقط لتدفع التهمة عن رواية إقدام أحد المتظاهرين على قتله عبر دفعه في فتحة المصعد. بل إنّ القناة نشرت خبراً كاذباً يشي بأن العنصر استشهد جراء إطلاق النار عليه من زملاء له في حرس المجلس النيابي. لكن بعد بيان قوى الأمن الداخلي، عادت المحطة وتراجعت وصنّفت خبرها الكاذب ضمن «الخبر الخاطئ»!
في خلاصة سريعة، يمكن استشفاف دخول لبنان مرحلة جديدة غير معروفة المعالم سياسياً وشعبياً، بعد انفجار المرفأ ومعه الجسم الإعلامي، الذي قفز أشواطاً عن الحدث الأساسي أي تفجير المرفأ، ودخل دهاليز أخرى ووضع على عينيه قماشة سوداء أعمت واقعية المشهد، وذهبت بنا إلى مشهد آخر مشغول عليه، (ما فوق الحدث) على شاكلة «ميني ثورة» كتلك التي اندلعت في البلدان العربية إبان «الربيع العربي».