القاهرة | مثل عذاب سيزيفي لا ينتهي، وبسبب عقود الرعاة، استمرت شاشات التلفزيون في عرض دعايات بطولة كأس الأمم الأفريقية (مستمرة حتى 19 تموز/ يوليو) التي تشيد بقوة الفريق المصري وتستعرض ثقته بالفوز، حتى بعد الخروج المبكر جداً لمنتخب الفراعنة. كالعادة، كانت «ميمز» الإنترنت الأسرع تعبيراً عن المأزق الذي وجد رعاة البطولة أنفسهم فيه. ثمة صورة شهيرة للفنان محمد رمضان تعبّر عن الدهشة والإحراج استخدمها جمهور التواصل الاجتماعي، وقد وضع في أعلى وجه الفنان المندهش مجموعة من العلامات التجارية للشركات الراعية للمنتخب المصري في البطولة، والتي كانت قد بذلت مجهوداً كبيراً في التنافس لتقديم دعايات جذابة تضم نجوم كرة القدم القدامى والحاليين. حتى إنّ شركتين عملاقتين منها قد اجتمعتا ـــ في حدث نادر ـــ لتقديم دعاية تلفزيونية مشتركة، كانت، كبقية الدعايات كلها، تفيض بمعاني القوة والثقة الساحقة بالفوز، وهنا كانت المشكلة.في تنافسها المتزايد سنوياً لتقديم «أقوى» الدعايات الرياضية وأفضلها وأشدها جذباً للجمهور، كان تنافس الشركات ينعكس في طبيعة الرسالة التي تصدّرها في إعلاناتها، وقد انتقلت بالتدريج من كونها دعاية معبرة عن المنتج المراد ترويجه، ليصبح الفريق الوطني لكرة القدم هو نفسه المنتج، ولتنتقل مع تلك الحالة الرغبة التجارية في تقديم السلعة في أفضل صورة، بالطريقة شبه الخيالية والمبالغ فيها كما هو المعتاد في الدعايات، ليصبح منتخب كرة القدم هو تلك السلعة التي تتزايد قوتها مع مرّ السنين ــ تماماً كالعلامات التجارية ـــ وغير المتأثرة بأي ظرف أو استثناء، تماماً كما تزعم المنتجات التجارية.


على هذا النحو، تغيّرت نبرة الدعايات التي بدأت باستضافات خجولة للاعبي فريق الشباب قبل بطولة العالم التي استضافتها مصر قبل عشر سنوات. قدمت تلك الدعايات لاعبي الفريق الوطني للشباب بنبرة هي مزيج من الدعم واللوم الخفيف للجمهور، استعرضت أسماءهم وصورهم لتطلب من الجمهور أن «يعرفهم، علشان يشجعهم». ورغم البداية القوية للفريق في البطولة آنذاك، إلا أنه خرج بسهولة فيها شيء من الصدمة. صدمة تم تجاوزها سريعاً لأنها كانت بطولة عالم لا بطولة محلية أو قارية. كما أن الفريق الوطني للكبار كان آنذاك يتسيد قارة أفريقيا، فائزاً بثلاث بطولات للأمم يإنجاز غير مسبوق، وهو ما أدى إلى الفخ التالي.
كان للجيل الذهبي، شبه الأسطوري، الذي دربه حسن شحاتة، أكبر التأثير على الدعايات التلفزيونية المصاحبة للبطولات الرياضية. الاكتساح المذهل الذي استمر لسنوات على حساب أقوى فرق أفريقيا المدججة بالنجوم، بل الفوز على فريق إيطاليا بطل العالم والتلاعب بمنتخب البرازيل في كأس القارات، وصولاً إلى احتلال المركز التاسع على العالم في تصنيف الفيفا... أقنع الكثير من المشجعين، ومن ثم الشركات التجارية، بأنّ ذلك الوضع الاستثنائي صار هو الطبيعي، وتبارت الدعايات ـ بل حتى المحللون ـ في التوقعات المتفائلة للنتائج المستقبلية للفريق المصري حتى بعد الاعتزال المتلاحق ـ بحكم السن ـ للجيل الذهبي. ورغم أنّ الأداء في الملعب كان يتراجع بوضوح، وأن نتائج الفريق أفريقياً كانت تسوء، إلا أن الوصول المفاجئ إلى نهائيات كأس العالم في 2018 بمساعدة فذة من نجم الفريق محمد صلاح، أسهم في انتعاش الرعاة والإعلانات التجارية مرة أخرى. كان لابتهاج الوصول إلى المونديال بعد وقت طويل الأثر في خفة الظل التي امتزجت بتفاؤل الدعايات التي لعب بعضها على المعنى المزدوج لكلمة «تمثيل»، فقدمت لاعب الفريق الذي «يمثل» مصر في المونديال كأنه «ممثل» في أفلام سينمائية، بعضها أفلام حركة وبعضها أفلام من الطراز الشعبي. غير أن بطولة أفريقيا للأمم 2019 كانت «غير». البطولة التي استضافتها مصر فجأة بعد سحب التنظيم من دولة الكاميرون، كانت فرصة مفاجئة ـ أيضاً ـــ وممتازة للشركات ودعاياتها.
كان للجيل الذهبي الذي درّبه حسن شحاتة أكبر التأثير على الدعايات المصاحبة للبطولات الرياضية

هذه المرة لسنا في صدد صعوبة التنافس في كأس العالم، ولا بطولة أفريقية في بلاد بعيدة وصعبة، بل الحديث هنا عن استضافة مصرية، ما يعني احتمالاً كبيراً لفوز الفريق المصري. في الواقع فاز الفريق المصري بجميع البطولات التي استضافتها القاهرة، عدا مرة واحدة سنة 1974 حين فازت بالبطولة زائير القوية جداً آنذاك، التي تغلبت على الفريق المصري بصعوبة في قبل النهائي. أما هذه المرة، بوجود صلاح ورفاقه، وبالقوة النفسية لمنتخب صار في جعبته «التاريخية» سبع كؤوس للأمم (رقم قياسي)، وفي ظل استعراض مصر – الدولة – إمكاناتها وملاعبها الجديدة وقدرتها على تنظيم البطولة الأكبر في تاريخ أفريقيا في مساحة زمنية وجيزة، فقد ملأ ذلك الدعايات بثقة غير مسبوقة، تبارت في استعراضها. فنحن «نجوم أفريقيا فراعنة تقال، ولا فارقة معانا أسود وأفيال» كما تقول إحدى الدعايات، ونحن «أصحاب الأرض، أصحاب الكورة، إحنا أصحاب البطولة»، و«لا مش كفاية السابعة.. لازم ناخد التامنة»، خصوصاً أننا «هنقدم أحلى كورة، هتقدر تغلبنا إزاي؟»، كما تقول دعاية أخرى.
بالطبع، ولأنها رياضة تشمل بطبيعتها المكسب والخسارة، فإن الفريق المصري «اتغلب»، على عكس ما توقعت دعايات الرعاة، وأسرع كثيراً مما كان في أسوأ كوابيسها، فأصبح عرض دعاياتها الواثقة خلال بقية البطولة محرجاً للغاية وباعثاً للمرارة بدلاً من الترويج للعلامة التجارية. بعد أيام من الصدمة، تسربت عن طريق الانترنت دعاية «اعتذار» كانت قد صورتها إحدى الشركات مع عدد من اللاعبين تحسباً لخروجهم من البطولة! من مطالعة سريعة لدعاية الاعتذار، يتضح سبب عدم بثها رسمياً، إذ عبرها يقول اللاعبون إنهم «لن يتحججوا بأخطاء التحكيم»، وهو ما بيّن بوضوح أنّها صوّرت قبل البطولة لا بعد الخروج منها، لأن الخروج المبكر للفريق من البطولة لم يكن له أي شأن بالتحكيم بل بسوء المستوى، ما زاد من استياء الجمهور إزاء ذلك الاستغلال التجاري حتى لمشاعر حزنه. استياء ربما دفع صنّاع الدعايات ــ والشركات وراءها ــ للتعلم من الدرس، وإلى أن تتقمص في المستقبل جمال الرياضة وتقبل تنافسيتها، بدلاً من تقمّص دور الفريق وتحميله ما قد لا يستطيع.