يأتي وثائقي «لهيب الصنوبر» (46 د و38 ثانية ــ من إعداد «المنار») ليكشف خفايا عملية تفجير مقر الحاكم العسكري في صور (في 11-11-1982). عملية أسماها الصهيوني «كارثة صور» التي يوضح الوثائقي بأنَّ الحاج عماد مغنية (ورفاقه في المقاومة الإسلامية) كانوا وراءها.
يزخر «لهيب الصنوبر» بشهادات حيةٍ للكثير من القادة الصهاينة من تلك المرحلة كدان مريدور (وزير استخبارات العدو السابق)، وغيورا آيلند (رئيس مجلس الأمن القومي السابق)، إفرام سنيه (نائب وزير الدفاع السابق)، أوري ميليشتاين (كبير المؤرخين العسكريين الصهاينة)، داني ياتوم (رئيس جهاز الموساد السابق)، الجنرال غيورا عنبار (قائد فرقة لبنان). في الإطار عينه، حضرت أسماء محلية قليلة كان لها وجود سياسي في تلك المرحلة كغالب قنديل (مدير إذاعة «صوت الثورة العربية») ومحمد دبورة القيادي السابق في حركة «فتح» (إبان عام 1982).
فجأة، يطل رون بن يشاي المراسل العسكري الحربي الصهيوني الشهير، يبدو شاباً في مقاطع الفيديو بالأبيض والأسود، يخبرنا بأنَّ قوات العدو الصهيوني تدخل الأراضي اللبنانية في 6 حزيران (يونيو) 1982، قائلاً بالحرف: «هي العملية التي لن يعرف كيف ستكون نهايتها». سرعان ما ينتقل الشريط إلى احتلال العاصمة اللبنانية شيئاً فشيئاً شارحاً كيفية حدوث ذلك، وكيف صمدت العاصمة أمام السيل الجارف للعدوان الصهيوني. كانت العاصمة تقصف براً وبحراً وجواً بشكل متواصلٍ وكثيف. «تبدل لون الرمال إلى الأسود من كثافة البارود الذي ألقته الطائرات المعادية» يشرح غالب قنديل في الوثائقي كيف أنَّ عاصمة المقاومة العربية كانت تتعرض لأبشع قصف بعدما أوقف مقاتلو المقاومة اللبنانية والفلسطينية تقدّم العدو في منطقتي المتحف وخلدة، ولقنوا وحدات نخبته دروساً لا تنسى. خارج بيروت، تكرر الصمود ذاته، في منطقة السلطان يعقوب في البقاع الغربي، إذ يكشف الوثائقي استبسال جنود الجيش العربي السوري وخوضهم لمعركة حياة أو موت أمام الصهاينة، موقفين تقدّمهم، ومكبدين إياهم خسائر كبيرة بالأرواح والعتاد (مقتل أكثر من 30 صهيونياً وتدمير أكثر من 8 دباباتٍ مهاجمة).

وصية عبدالمنعم قصير تشكّل أول وثيقةٍ صوتية يذكر فيها اسم «حزب الله» بشكلٍ مباشر


ينتقل الشريط بعد ذلك للحديث عن مجزرة صبرا وشاتيلا، التي راح ضحيّتها الآلاف من اللبنانيين والفلسطينيين على يد عملاء من «القوات» و«الكتائب» اللبنانية المتحالفين مع العدو الصهيوني.
عند الدقيقة العاشرة، يظهر الوثائقي للمرة الأولى صورةً لوفد لبناني يرأسه الأمين العام لـ «حزب الله» الشهيد السيد عباس الموسوي في لقاءٍ مع الإمام الخميني. يتمحور اللقاء حول تأسيس تنظيمٍ إسلامي لبناني هدفه مقاومة العدو الصهيوني (سوف يعرف لاحقاً باسم «حزب الله»). في الدقيقة الثانية عشر إلا ثانيتين تماماً، أطل عماد مغنية. بدت صورته المعروفة بالأبيض والأسود وحديث أحد المجاهدين الذي استبدل ــ ربما للمرة الأولى في الوثائقيات المحلية- بصوتٍ آخر لدواعٍ أمنية على ما يبدو، إنما حافظ على اللهجة «المحكية» قائلاً: «إنَّ تاريخ 11 – 11 لن ينساه العدو أبداً». منذ تلك اللحظة، يبدأ الوثائقي بأخذنا جميعاً في رحلةٍ حول تلك العملية التي لم يعلن عن هوية منفذها إلا بعد ثلاث سنوات (أعلن عنها في عام 1985، مع اسم منفذها «فاتح عهد الاستشهاديين» أحمد قصير). يجيب الوثائقي عن أسئلة طرحت كثيراً، لكن ما من إجاباتٍ «رسمية» لها: من خطط لها؟ من أين أحضرت هذه الكمية الكبيرة من المتفجرات في تلك الفترة؟ وكيف تم تفخيخ السيارة؟ لماذا تم اختيار مقر الحاكم العسكري في صور؟ ما هو دور الحاج عماد مغنية في التخطيط والتنفيذ؟ «كان الحاج عماد مغنية هو الذي رصد مبنى الحاكم العسكري، وهو الذي اختاره، وقد رصده ذات مرة لساعات طويلة، ولم يتم اكتشافه» تشير الشخصية الجهادية، وكان اختيار هذا المكان «لنقل المعركة إلى خلف خطوط العدو وإلى قلب بيته».
تبدو حرفة التقرير عالية، خصوصاً مع العديد من الصور الخاصة والمشاهد كما المعلومات التي تعرض للمرة الأولى. هكذا، ظهرت صورة نادرةٌ لمقر الحاكم العسكري قبل تفجيره، وكذلك صورة للشهيد رضا حريري (وهو من المشاركين في العملية). لكن أحد أهم ما ظهر كان وصية الشهيد عبدالمنعم قصير الصوتية. وقصير كان أحد القادة المؤسسين للمقاومة والمشاركين الرئيسيين في التحضير للعملية. تكمن قيمة هذا التسجيل/ الوصية بأنه أوّل وثيقةٍ صوتية يذكر فيها اسم «حزب الله» بشكلٍ مباشر لتوصيف هذه المجموعات المقاومة، أي قبل عامين تماماً من الإعلان الرسمي عن «حزب الله» كحزبٍ علني في شباط من عام 1985. كان الشهيد عبدالمنعم قصير يود أن يقوم هو بالعملية، رغم أنّه هو من أخبر مغنية بأنّ هناك شاباً يدعى أحمد قصير مستعدٌ للقيام بالعملية الاستشهادية.
بعدها، يغوص الشريط في شرح تفاصيل العملية، وكيفية اختيار الحاج عماد للسيارة المستخدمة (بيجو بيضاء)، بعد استحصاله على فتوى شرعية من الإمام الخميني آنذاك تجيز العملية الاستشهادية. بعد تجهيز السيارة بأكثر من 300 كيلو من المتفجرات والألغام المضادة للدروع، كان مغنية يخرج مع الشهيد أحمد قصير للقيام بجولات بالسيارة لاكتشاف المكان أكثر فأكثر. تحدث العملية، هنا يعود الشريط ليقدّم مفاجآته: هناك أكثر من شاهد عيان على العملية. يأتي عبدالله شاكر أحد سكان أحد الأبنية القريبة من «مقر الحاكم العسكري» وقد رأى بأم العين العملية إبان حدوثها. الأمر نفسه ينسحب على الدكتور أحمد مروة الطبيب في «مستشفى جبل عامل» الذي يبعد عمله أمتاراً قليلة عن مكان تنفيذ العملية.
يستعمل الوثائقي أرشيف العدو الصهيوني بحرفةٍ بارعة، فيظهر انتشال الجرحى من موقع الانفجار مع ترجمةٍ واضحةٍ لما كان يقال وما كان يحدث. تجدر الإشارة هنا إلى «كذب» الإعلام العبري في التعامل مع الانفجار، إذ أعلن أن الانفجار ناجمٌ عن «انفجار أنابيب غاز في المبنى»، فضلاً عن تأخير الإعلان عن الخبر لأكثر من 14 ساعة كاملة، ناهيك عن تقديمه كخبرٍ عادي وليس كخبرٍ عاجل. يسأل المحاور في الوثائقي جنرالات العدو حول عماد مغنية. يكون الرد مفاجئاً، لقد كانوا يعرفونه، ويعرفون قوته ويعرفون أنه هو الذي كان خلف العملية، إلى جانب الكثير من العمليات الموجعة بحقّهم، فهو «الإرهابي الأكثر خطورة الذي واجهته إسرائيل على الإطلاق» كما قال داني ياتوم، و«هو العقل المدبّر للعديد من العمليات الإرهابية» كما يؤكد إفرايم سنيه، فيما رأى دان مريدور بأنه «ليس لديه حساب مع إسرائيل فحسب، بل مع الولايات المتحدة أيضاً».
وكما بدأ الشريط بقوةٍ بالغة، ينتهي بذات القوة والعنفوان مع صورة الحاج عماد مغنية التي تزين شاطئ عاصمة الاحتلال «تل أبيب» في إشارةٍ شديدة الوضوح، إلى أن رحيل «الحاج رضوان» هو بجسده فحسب. أما عمله وأثره فلا يزالان حاضرين بقوة، وباستمرارية الأجيال الآتية من المقاومين.