في ساحة عوكر التي تبعد كيلومترات قليلة عن السفارة الأميركية في بيروت، تحوّلت التظاهرات التي دعت إليها الأحزاب والمنظمات الشبابية احتجاجاً على قرار دونالد ترامب بإعلان «القدس» عاصمةً للكيان العبري، إلى ما يشبه ساحة حرب! استخدمت القوى الأمنية، من مكافحة الشغب إلى «الفهود»، كل ما استطاعت من الوسائل العنفية والقمعية، بدءاً من خراطيم المياه مروراً بالقنابل المسيّلة للدموع، وليس انتهاء بالهراوات والرصاص المطاطي.
كل هذه المشهدية التي احتلت الشاشات اللبنانية، لأكثر من خمس ساعات، بنسب متفاوتة في ما بينها، ظهّرت خطابات مخيفة، يعود أغلبها إلى حقبة الحرب الأهلية. وُظِّف من جديد العامل الفلسطيني، الذي حضر عبر مجموعات من المتظاهرين من مختلف مخيمات الشتات في لبنان، وإلى جانبه عناصر أخرى، مناطقية (ضبية)، ورمزية (شجر الميلاد)، لنكون أمام خطاب مذعور، عاد على ألسنة بعض الصحافيين/ ات، والسياسيين أيضاً.
ليست المرة الأولى، التي تنظّم فيها منظمات شبابية وحزبية، تظاهرات مندّدة إلى السفارة الأميركية في عوكر. وليس جديداً لجوء السلطة إلى أساليب همجية، وصلت إلى حدّ منع الصحافة والمصورين بالإكراه من إتمام تغطياتهم (راجع الكادر). لكن مشهد أمس، وطريقة تعاطي بعض القنوات معه، دقا ناقوس الذعر من جديد، عبر اللعب على شدّ «العصب المسيحي»، مع إعادة تكريس مقولة «أبو إياد»، التي رددها في منتصف السبعينيات: «طريق القدس تمرّ في جونية».

غرقت otv و«تلفزيون لبنان» في غيبوبة شبه تامة في الساعات الأولى من الحدث

قبل أيام قليلة، طالعتنا مراسلة lbci، ريما عساف، بتقرير في نشرة الأخبار المسائية، بعنوان: «إلى القدس... ضاع الطريق». تقرير يرصد زمنياً الأطراف التي رفعت شعار تحرير القدس. تقرير يراد منه تسطيح المواقف، ولا سيما تلك الآتية من جهات دعمت بالمال والسلاح، وحتى بالدماء، قضية فلسطين، من الخميني إلى الخامنئي، وصولاً إلى «حزب الله». كل هؤلاء، أعادت عساف نشر تصريحاتهم بشأن القدس، وبدا ما هو استخفاف بهذه القضية، بالسخرية من هذه التصريحات تارة، ومن جدواها طوراً. بعد عساف التي لمّحت أمس في تغريدة لها، إلى تأفف من «السقوف العالية» بشأن القدس، التي تأتي دائماً من لبنان، جاء دور مراسلة المحطة أيضاً، ندى أندراوس، التي واكبت صباحاً تظاهرة عوكر، مع ضيفها إيلي الفرزلي في «نهاركم سعيد»، واختصرت المشهد أمامها بأنه محصور فقط بـ «أعمال الشغب»، وأن لا مجال لرؤية تظاهرات (ديمقراطية) مماثلة في أي بلد عربي آخر غير لبنان. بعد هذه المواكبة، أعادت أندراوس، في منشور فايسبوكي، العبارة الشهيرة لأبو إياد، لكن بنسخة معاصرة: «طريق القدس لا تمرّ في عوكر»، واتهمت المتظاهرين بـ «الاعتداء على القوى الأمنية»، وبـ «تخريب الممتلكات العامة». وهالها طبعاً مشهد «شجرة عيد الميلاد»، التي طاولتها هذه الأعمال التخريبية. طبعاً، هذا الخطاب الذي سرى سريعاً على منصات التواصل الاجتماعي، وجد أرضية خصبة له، من خلال عدد من التغريدات والمنشورات، لناشطين وحتى لأناس يعملون في الشأن العام، حول أنّ ما يحصل فعلاً في عوكر، يراد منه التخريب والاعتداء على قوى الأمن، وعلى الممتلكات العامة. والأخطر ربط هذه الأعمال بالعامل الفلسطيني، إذ لوحظت هذه العودة إلى خطاب حربي تحريضي ضدهم، وضد وجودهم في لبنان في الخطاب الإعلامي، خصوصاً lbci وmtv.
إذاً أداء إعلامي، استخدم خطاباً أجوف وسطحياً، أراد تفريغ هذه المظاهرة من مضمونها، ومن رسالتها الأساسية، وهي سرقة القدس. لعل قناة المرّ، من أبرز النماذج التي نتحدث عنها في هذه التغطية. منذ الساعات الأولى للتحرك الشعبي في ساحة عوكر، ومراسلة المحطة رنين إدريس، ومعها في الاستوديو نادين كفوري، تحوّران أهداف هذه المظاهرة. المحطة التي صعقت المشاهدين أخيراً، بتصدرّ شعار «القدس عاصمة فلسطين»، في نشرة أخبار الظهيرة، أخذت الحدث إلى مكان آخر، مركزةً على وصف التظاهرة بأنها مجرد أعمال شغب، وممرّرةً رسائل عدة من بينها التلميح إلى أن ثكنة للجيش اللبناني، تفصل ما بين المتظاهرين وقوى الأمن. هنا، سمعنا كفوري تردد: «المواجهة مع الجيش لن تحرر القدس»، مع تحذير من مغبة الوصول إليها. ثانياً، ركزت المحطة على قصة الممتلكات العامة وأرزاق الناس، واتهمت المتظاهرين بأنهم يفتعلون الاعتداء على المحال، والمنازل. وآخر المهازل، تمنين الفلسطينيين بأنّهم إذا أرادوا التظاهر بـ «سلمية»، يمكنهم ذلك على الأراضي اللبنانية!
وفي وقت كان فيه المتظاهرون العزّل، إلا من وسائل قليلة للدفاع عن أنفسهم، يهرولون ضمن لعبة المدّ والجزر، مع قوى الأمن، وخراطيم مياهها ورصاصاتها المطاطية، كانت قناتا otv و«تلفزيون لبنان» في غيبوبة شبه تامة في الساعات الأولى لهذه التظاهرة. استُكملت ألعاب التسلية والمرح الميلادية على الشاشة البرتقالية، فيما غاب عن الشاشة الرسمية أي نقل مباشر لما يحدث، في انتظار ربما، وصول الأوامر العليا إليها!





الإعلام أيضاً ضحية البطش!

أعمال البطش التي خصّت بها قوى «مكافحة الشغب» في الأمن الداخلي، المتظاهرين، لم يسلم منها المراسلون/ ات، والمصوّرون. حدث ذلك عندما بدأت حفلة الاعتقالات بالجملة للمتظاهرين، واتُّخذ قرار بوقف أي توثيق للاعتقالات التي صاحبتها اعتداءات جسدية على المتظاهرين بعد توقيفهم. هنا، وقف المصورون في الدرجة الأولى ليوثّقوا هذه الاعتداءات، فما كان من قوى الأمن، سوى محاولة إسكات عدساتهم، عبر القول ذلك صراحة. يروي مصوّر صحيفة «دايلي ستار»، حسن شعبان لـ «الأخبار»، كيف بدأ الاعتداء على طاقم المصورين عندما أرادوا توثيق همجية قوى الأمن على الموقوفين. لم يعد هؤلاء يميّزون بين متظاهر وآخرين يقفون جانباً لا دخل لهم بهذه المعمعة. وبدا مقصوداً التركيز على الإعلام وكمّ الأفواه، إذ يقول لنا شعبان إنّ قوى الأمن توجهت إلى إحدى سيارات النقل المباشر، لحثّها بالقوة على الرحيل. في السياق عينه، أصيب مراسل «فرانس برس» أنور عمرو، برصاصة مطاطية خرقت الدرع الواقية التي كان يرتديها. في اتصالنا معه، روى عمرو لحظة تعرضه لهذه الرصاصة الغادرة في صدره، مستعيداً لحظة تغطية المصورين في المكان الفاصل بين القوى الأمنية والمتظاهرين. يقول عمرو إنه بعد انسحابهم من هناك، اشتعلت قنبلة «مولوتوف» إلى جانب أحد عناصر الأمن، فصوّب بندقيته مباشرة إليه. أما الطامة الكبرى، فتكمن في غياب أي وسيلة إسعاف له، إذ ظل عمرو، طريح الأرض لنحو نصف ساعة، قبل نقله إلى المستشفى.
وفي حصيلة ما تقدم، لا بد هنا من توجيه اللوم مجدداً إلى «نقابة المصورين»، التي تكتفي بتوزيع بيانات الاستنكار، من دون أن يكون لها اليد الطولى في منع تكرار الاعتداء على المصورين، والتصويب بأن هؤلاء ليسوا مكسر عصا، بل ناقلون للحدث وموثِّقون له، عبر عدساتهم التي يُراد لها اليوم أن تسكت!
زينب...