في 2004، أبلغني المدير السابق لقناة «الجزيرة» وضاح خنفر في مكتبه في الدوحة، موافقته على تعييني مراسلاً للقناة في المنامة.حينها، كنت رئيساً للأخبار المحلية في صحيفة «الوسط»، وقد رشحني مدير تحريرها، وليد نويهض، الأستاذ الذي تعلّمت منه الكثير، لهذه الوظيفة. ولم أكن بالطبع الوحيد، فقد أجرت الفضائية القطرية التي كانت في أوج حضوها، مقابلات مع عدد من الإعلاميين، لكن وقع الاختيار عليّ.

عدت إلى المنامة، وآمالي المهنية في قمة تفاؤلها، إذ سأكون مراسلاً لأهم قناة إخبارية عربية، تتيح مساحة واسعة لحرية التعبير، وأفقاً كبيراً للانخراط في العمل التلفزيوني، والانفتاح على الحدث الإقليمي والدولي، وتنمية مهاراتي الإعلامية. لكن هواجسي كانت حاضرة أمامي بوضوح، واحتمالات إعاقة تعييني مراسلاً واردة من قبل سلطات المنامة. لذا فإن أول أمر قمت به بعد عودتي من الدوحة، هو الاتصال بالوزير السابق عبد النبي الشعلة. طلبت منه أن يتحدث مع الحكومة كي لا تعيق تعييني مراسلاً للجزيرة، في وقت كانت فيه إدارة الإعلام الخارجي تضع شروطاً سياسية على تعيين المراسلين العاملين في البحرين. قلت للوزير: لا يسمح لي ولزملائي الصحافيين بالعمل في تلفزيون «البحرين»، ولا الظهور على شاشته، فلا داعي لتعميم ذلك ومنعي من العمل في التلفزيونات الأخرى، وإعاقة تطوري المهني، لمجرد أن الحكومة تشعر أن قلمي لا ينسجم مع توجهاتها.
لقد اعتدت في تلك الفترة (2002 _ 2005) على نشر كتابات في صحيفة «الوسط» نقدية لأداء السلطات التنفيذية والبرلمانية، وقد شمل النقد أداء الجمعيات السياسية أيضاً، بما في ذلك "الوفاق" التي كنت أحد مؤسسيها الـ 100. لم يتأخر الشعلة عليّ في الرد. عاد لي بعيد ساعات، قائلاً: "تحدثت مع أبي بشار (يقصد وزير شؤون المتابعة الحالي محمد المطوع الذي كان وزير شؤون مجلس الوزراء)، وأكد أن لا إعاقة أمام تعيينك مراسلاً في القناة القطرية". لكن «الجزيرة» أبلغتني أن الموضوع صار بيد وزارة الإعلام في البحرين، وانتهى الأمر إلى تعيين الزميل محمد الشروقي، القريب من الخط الرسمي، مراسلاً لـ «الجزيرة».
حينها، لم أكن الوحيد الذي منعت وزارة الإعلام عمله مراسلاً. منعت الوزارة الصحافي الرصين مهدي ربيع من مواصلة عمله مراسلاً لصحيفة «الحياة» اللندينة، وآخرين كثر. وخسر بذلك القارئ والمشاهد تغطيات مهنية، ومتعددة الرؤى، لتطور الحالة البحرينية، التي بدا كأن العالم تفاجأ بانفجارها في فبراير 2011. وحالياً، فإن إدارة الإعلام الخارجي تملي شروطها على المؤسسات الإعلامية الدولية، ما يجعل وصول المراسلين المهنيين إلى البحرين شبه مستحيل.
التوجه الرسمي في التضييق على الحريات تجلى مبكراً، أي في 2002، بإصدار قانون الإعلام رقم 47 الذي عكس الرؤية الملكية السلبية للحريات الإعلامية. كما أن تعاطي الحكومة وطريقة احتوائها للانتقادات التي وجّهت للقانون، عكست التكتيكات الرسمية في التعاطي مع المطالب السياسية، إذ شكلت الحكومة لجنة منذ 2002، لتعديل القانون، لكن القانون لم يتم تعديله بعد!
لقد لعب وزير الاستخبارات السابق خليفة بن عبد الله آل خليفة دوراً سلبياً في منع التطوير المهني للإعلاميين. وقد عُيّن عبد الله وكيلاً للإعلام الخارجي في شباط (فبراير) 2002 واستمر في منصبه حتى 2007 حين عيّن سفيراً في لندن. وفي 2008 عيّن رئيساً لجهاز الاستخبارات.
لقد كانت وزارة الإعلام دوماً وكراً مخابراتياً، خصوصاً إدارة الإعلام الخارجي. ولا بد من القول إن عبد الله احتفظ بعلاقات طيبة مع الجسم الصحافي، لكنه كان يمارس فعلاً عدائياً ضد الإعلاميين بعكس شعاراته الإيجابية. وحقيقة، فإني لم أفاجأ بتعيينه وزيراً للاستخبارات. فقد توافرت دلائل عدة تشير إلى أنّه جزء من الجهاز الأمني. ورغم أنّ عبد الله يعرف أكثر من غيره حرصي على البلاد والعباد، فإن ذلك لم يمنع السلطات من مواصلة إيذائي، لأنّ لي رأياً آخر.
مثلاً في 2006، أبلغتني صحيفة «الأيام» التي يملكها مستشار الملك الإعلامي نبيل الحمر، أن عليّ الاستقالة من عملي نائباً لمدير التحرير للشؤون المحلية، والسبب أنّ الديوان الملكي مستاء جداً من تواصلي مع معهد «إن دي آي»، وعلي أن أدفع ثمن ذلك التواصل.
أحد العارفين ببواطن الأمور، قال لي صراحة: "الديوان يراك ممثلاً لمعهد «إن دي آي» في البحرين، وهذا أمر لا يجوز".
فضلت الاستقالة تجنباً لمزيد من الإرباك. وطبعاً، لم أكن ممثلاً للمعهد الأميركي، وقد كنت قريباً من مديره فوزي جوليد. وحين جاء قرار الإقالة من «الأيام»، كنت وجوليد نعد لترتيب "خلوة" بين القوى السياسية في المغرب، وقد كتبت عن ذلك في «الأيام» التي كان يفترض أن ترعى هذه الخلوة. لكن ما حدث أنه تم طرد فوزي جوليد من البحرين وإقالتي من «الأيام».
طوال السنوات التي خلت، كنت على استعداد لتوقع أي إجراء عقابي، خصوصاً بعد 2011. وهذا ما جرى بالفعل في كانون الثاني (يناير) الماضي، حين أعلنت حكومة البحرين اسقاط جنسيتي ضمن قائمة شملت 72 بحرينياً.
وسريعاً جداً، حاولت امتصاص الإجراء العقابي العنيف الذي يعكس أيضاً أن السلطات تتألم من النشاط الحقوقي والسياسي والإعلامي الذي تقوم به المعارضة.
وصحيح أن إجراء سحب الجنسية أكثر عنفاً من الإقالة من العمل في «الأيام»، وأشد وطأة بما لا يقاس بمنعي من العمل مراسلاً لقناة «الجزيرة»، لكني نظرت لاسقاط الجنسية ـ في حدود معينة ـ باعتباره فشلاً حكومياً في إدارة الأزمة السياسية التي لا يمكن علاجها بالعضلات. بالنسبة لي، حريتي ليست محل تفاوض. دفعت الكثير، ومستعد لأن أدفع أكثر.