يقدّمنَ التقارير من قلب المعمعة، يرصدن العدوان لنقل الحقائق التي يحاول الاحتلال طمسها. لكن خلف الوجه المتماسك الذي نراه على الشاشة، تختبئ معاناة يصعب الشفاء منها
رام الله ــ يوسف الشايب
على القنوات الفضائيّة يُقدمن التقارير الميدانيّة، يرصدن وقائع العدوان أولاً بأوّل... لكنّ ماذا يختبئ خلف وجوههنّ التي تطالعنا على الشاشة؟ ماذا عن معايشة المجزرة المتواصلة والمشاهدات اليوميّة التي تفوق طاقة أي إنسان على الاحتمال؟ إنهن مجموعة من الصحافيّات، يراسلن الفضائيات العربية والأجنبية في غزة، ويعشن كل لحظة معاناة مزدوجة. من جهة مواجهة عنف الغزاة ونقل مجازرهم في القطاع إلى العالم، ومن أخرى الضغط النفسي الفظيع الذي يعشنه كبشر، كنساء وأمّهات أوّلاً وأخيراً.
منذ بدء العدوان، تترك مراسلة «الجزيرة» هبة عكيلة أطفالها الثلاثة مع والدهم ثم تغادر لساعات، رغم توسّلات ابنها الأصغر «بلاش جزيرة اليوم... بلاش تطلعي». تعترف هبة بأنّ معاناتها ليست سهلة: «إنّني ممزّقة بين أبنائي من جهة وواجبي المهني.... فضلاً عن المشاهد المؤلمة والصعبة التي نراها يومياً». ولا تختلف حكاية مراسلة «إم. بي. سي» في غزة ريهام عبد الكريم، وهي والدة لطفلين، عن تجربة زميلتها في «الجزيرة». ريهام تعاني من بشاعة المشاهد اليوميّة وقسوتها التي يصعب نسيانها أو الشفاء منها: « ما يبث على شاشات الفضائيات نزر يسير مما يحدث».
وفي الإطار نفسه، تقول هبة عكيلة: «كلما واجهت مشهداً خلت أنّه الأصعب، لأفاجأ في اليوم التالي بمشاهد أكثر فظاعة. تخيّل أولئك الأطفال الذين اكتشفناهم، وكانوا يعيشون أياماً بجوار جثامين أقاربهم في غرفة واحدة». وتتذكّر ريهام عبد الكريم أحد أصعب المواقف التي واجهتها وكان محاورة طفل عاش مع أهله الموتى أيّاماً». وتفرد لحكايته حيّزاً كبيراً من الذاكرة: «حين قُصف منزل عائلة السموني، استشهد كثيرون وبقي بعضهم جرحى. كان ابن الـ 15 الناجي الوحيد من المجزرة. بقي لأيام مع جثث ذويه، ومَن بقي من الجرحى. ورغم إصابته، حاول إسعافهم وبقي هكذا 4 أيام. وكان كلّما حاول التنقّل، تصطدم قدماه بالجثث حوله ورائحة الدم تخنقه. في البداية، كان والده وجدّته لا يزالان حيّين، وكان يزحف ويجمع الخشب ليطهو لهما ما قد يقيهما الموت. صنع «شوربة شعيرية» وأخذ يُطعمهما، لكنّهما أسلما الروح في النهاية. وبلغت الفظاعة ذروتها، حين دلفت دجاجات العائلة إلى المنزل وأخذت تأكل من رؤوس الموتى»!
هبة وريهام ترتديان السترات الواقية والخوذات حيناً، وتتخلّيان عنها أحياناً... لكنّهما مثل باقي المراسِلات في حاجة ماسة إلى تأهيل نفسي ككل أهل القطاع، لمساعدتهنّ على تحمّل العبء النفسي المترتّب على معايشة كل تلك الفظائع. ورغم ذلك، يؤكدن جميعاً التمسك بعملهنّ، ذلك أنهنّ مصمّمات، رغم الصعوبات والمخاطر، على نقل ما يجري إلى الرأي العام العربي والعالمي، وعلى كشف الحقائق التي يحاول الغزاة ـــــ بكل ما أوتوا من إمكانات ـــــ طمسها وإخفاءها.