لماذا يسيطر الغرب على العالم منذ ما يقارب خمسة قرون؟ تمثّل هذه الإشكالية المدماك الأساسي الذي قامت عليه أطروحة الكاتب اللبناني فردريك معتوق «مرتكزات السيطرة غرب/ شرق، مقاربة سوسيو ــــ معرفية» (منتدى المعارف، 2011). لا يهدف صاحب «تطور الفكر السوسيولوجي العربي» إلى تفكيك مقومات الإشعاع الحضاري الغربي من زاوية اقتصادية أو سياسية، إنما يعمل على مقاربة إشكاليته الأم من زاوية معرفية، قائمة على خمسة محرِّكات: الهيمنة، والمجادلة السياسية، والمعرفة، والتنظيم، والربح. ولكي يستكمل مشروعه الفكري، يعود إلى الشرق ويختار منه نماذج تاريخية ومعاصرة تبين أنّ لهذا العالم مرتكزاته وإن تراجعت أو حتى ضمرت عند بعض جماعاته.من الغرب، يستهل معتوق معركته، مسجلاً أكثر من خلاصة. أهمية كتابه أنه عالج الأسس المعرفية التي جعلت الغرب يحتل الصدارة العالمية. ولا يتوانى المؤلف عن إجراء المقارنات الجادة بين عالمين متباعدين، جغرافياً ومعرفياً، على اعتبار أن طبيعة المرتكزات وتناقضها تحيل إلى نتيجة جوهرية قوامها: الغرب اكتسب تألقه الحضاري، ليس بفعل المقومات الاقتصادية والسياسية وحدها، بل لأن للمعرفة أدواتها وشروطها ومناهجها. وهذه المعرفة تتسرب إلى كل الميادين، وتؤثر بدورها على المجال الجيو ـــــ استراتيجي الواقع في مناطق النفوذ الغربية، ومن بينها الشرق الأوسط.
ما الذي يجعل الغرب غرباً والشرق شرقاً؟ لا يعالج صاحب «جذور الحرب الأهلية» السياقات التي تفصل الشمال عن الجنوب بأحكام أيديولوجية مسبقة. لكن انطلاقاً من معالجته السوسيولوجية، يرصد التباينات بين الغرب والشرق على أسس معرفية حددها بخمسة محركات أعطت للغربيين القدرة على الدخول التدريجي في الحداثة بعدما قطعوا مع المفاهيم القروسطية. سيطرة هؤلاء لم تكن نتاج الفصل بين الديني والسياسي فحسب، بل حُوِّل العلم والاستراتيجيا إلى خريطة طرق تحدد خياراتهم تجاه الداخل والخارج في آن واحد.
المهم في أطروحة الكاتب مؤشر أساسي يفيد بأنّ المعرفة في الغرب عقلية وتوليدية، «بينما المعرفة عند الشعوب الأخرى نقلية». ولعل هذه النقطة هي التي تعوق في الدرجة الأولى إمكان الإنتاج المعرفي الجديد في عالمنا العربي الذي يعيش في الماضي، وينزع نحو الموروث الديني والسياسي والمجتمعي، من دون أن يجدده أو ينفض الغبار عنه وينظر إليه بعين العصر. والأهم أنّ المجتمعات الغربية قامت على الفردانية «وعلى التنظيم العضوي وعلى تنظيم فاعل للثروات الطبيعية»، في حين أن عالم الجنوب تحكمه «الانتماءات العصبية المشرذمة للأفراد والجماعات» كما يخلص الكاتب.
الإقلاع عن شخصنة السلطة مثّل أحد أبرز العوامل التي دعمت مرتكزات السيطرة الغربية. فقد مثّلت المنعطف المعرفي الحقيقي لمسألة التنظيم السياسي للمجتمع. وعلى الضفة الأخرى، يعيش الشرق على أنقاض تقديس الحاكم وعلى الأيديولوجيا السياسية والدينية. وتتأرجح أنماط الحكم فيه بين الدولة القومية والدولة الدينية. وفي الوقت الذي يزيد فيه الغرب ثرواته العلمية والاقتصادية بعدما تخطى معوقات بناء الدولة الحديثة القائمة على التعددية واحترام حقوق الإنسان ومساءلة الطبقة الحاكمة، يراكم الشرق أزماته التي يُحيلها معتوق إلى مسببات بنيوية مختلفة، تأتي في صدارتها معضلة «الدولة ـــــ القبيلة».
وفي معرض دراسته لمرتكزات السيطرة الغربية، لا ينسى صاحب «معجم الحروب» إلقاء الضوء على مصالح الغرب الاستراتيجية والاقتصادية. وحدها المصلحة هي التي تحدد المنظور الغربي تجاه دول العالم الثالث، ومن بينها العالم العربي.
وهذه المصالح القائمة من وجهة نظر الغربيين على استنزاف الثروات والشعوب، ويتطرق إليها معتوق على عجالة. مع العلم بأنها تُعَدّ بمثابة أساس التفاوت بين الشمال والجنوب، وكان من الأجدى به العودة إلى نظرية الخبير الاقتصادي سمير أمين في العلاقة بين المركز والأطراف. ورغم أنه أوضح بدءاً من السطر الأول عدم خوضه في الإشكاليات الاقتصادية، بل فضّل التركيز على الأطر المعرفية، إلا أنّه كان لا بد من التوضيح أنّ الغرب يتحمل المسؤولية الكبرى في إفراغ هذا الشرق من ثرواته الطبيعة والبشرية، فهذا الجانب لم يدرسه معتوق دراسة كافية.
من هو الغربي؟ يرسم صاحب «سوسيولوجيا التراث» ملامح الهوية الغربية من مفاصل عدة من بينها التمثل في التاريخ الغربي اللاحق للقرون الوسطى: الغربي إنسان انتمى في لحظة من تاريخه الوطني إلى قوة مستعمرة، الغربي ينتمي إلى بلد رأسمالي ذي اقتصاد حر، الغربي يعيش في بلد صناعي كلياً أو جزئياً، الغربي شخص يعيش في دولة القانون، الغربي ينتمي إلى المجتمع
المدني.
لكن ماذا عن الشرق؟ يستشهد معتوق ببعض التجارب التاريخية، ويضع العرب أمام إشكالية قلقة «إلى أي مدى شكلت المعرفة محرِّكاً ذهنياً عند العرب؟ وما الذي عطل هذا المحرك؟» يموضع الكاتب تساؤله عبر الإسهام المعرفي الذي سجّله المبدعون العرب، وفي طليعتهم ابن خلدون الذي تحدث عن المعارف التوليدية أو ما يسميه صاحب «المقدمة» «العقل الجديد». المعرفة لم ترفد وحدها الحضارة العربية الإسلامية.
بل إنّ الإسلام كمحرك ديني، مثّل أحد مرتكزات السيطرة التي وصلت إلى عقر ديار الغرب إبان عصوره المزدهره. إلّا أن هذه الحضارة، منذ عصور الانحطاط، دخلت في حال من النكوص التدريجي، ليس على صعيد إنتاج المعارف فحسب، بل أيضاً نتيجة غياب البيئات الحاضنة للعقل التوليدي.
هكذا، بقيت المعرفة محصورة بالأفراد أو العلماء ولم تجرِ مأسستها كما حدث ويحدث في الغرب... فكيف يمكن مقارعة الثقافة العالِمة بالذهنية الاجترارية؟ ولماذا هذه العودات الدورية إلى التراث في العالم العربي، أو بمعنى آخر ما الذي يدعم النزعة نحو «التتريث» كما يتساءل الباحث اللبناني خليل أحمد خليل؟
«مرتكزات السيطرة غرب/ شرق» أطروحة جديدة على المكتبة العربية، تستمد هذه الخاصية من تعقب الكاتب لأهم المحددات المعرفية التي أكسبت الغرب انتصاراته في الميدان العلمي والاقتصادي والسياسي والجيو استراتيجي، في وقت ما زلنا نعاني فيه نحن العرب مآزق دورية على كافة المستويات المعرفية والسياسية والاقتصادية.
3 تعليق
التعليقات
-
ألحضارة والعلم في صميم الدينبسم الله الرحمان الرحيم أللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم لم يأتي الإشعاع والتألق الحضاري مع التطور إلى الغرب من خلال إبعاد أو فصل الدين عن السياسة،إنما من خلال التحول والإقتراب نحو الدين بعيدا عن اللادين(الذي تجسد وانعكس اضطهادا واستبدادا وقمعا واستعبادا وتقييدا للحريات).لذلك فإن تطبيق وسلوك المجتمعات اللذان سببا وأنتجا نجاحهم وتقدمهم وتألقهم الحضاري،يمثلا صورة عملية طبق الأصل لبعض منهج الدين(أي غير التطبيق المترتب على مقتضيات النواحي والعبادات الروحية)،والإنحراف والإرتداد عن الدين،هو سبب تراجع وتخلف العرب أو أكثر المسلمين،ولا تمثل معظم أفعالهم تجسيدا للدين،فتبرز بها وتنعكس حقيقته،ويمكن القول أنه غير مفعل من قبلهم.فالدعوة والحث على التفكر والتبصر والعلم والسعي والتطبيق من أهم مكونات وتوجيهات وأحكام الدين. وبالمناسبة،إن الدين يحرم أذية الغير،ويأمر بفعل الخير والدعوة إليه،ولا يرخص التعدي على الحريات كما لا يجيز الإكراه في الدين،كقول تعالى"لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"البقرة (256). أللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم.
-
لا نقبل بان يصنف لبنان فيلا نقبل بان يصنف لبنان في معسكر الشرق بمواجهة الغرب فاعدائنا التاريخيين هم العرب لا غير ولن نسمح لهم بالهيمنة على كياننا وديمغرافيتنا
-
نصف العلم جهلمبدئيا من خلال المقال التعريفي بالكتاب ياتي الراي وهو عندنا مايلي:الكاتب امتلك النصف من العلم وبنى اراؤه عليه وغاب عنه النصف الثاني فوقع في مطب المنهجية العلمية فاستطيع ان ارد عليه مثلا عندما يعيب على الشرق بالتتريث فاقول ان هذا العيب مشترك عند الغرب وعند الشرق فكيف يكون الشيء ونقيضه في الحكم على مساله واحدة,لا احد ينكر ان تطور الطيران والصواريخ مثلا لا يرتكز على نظرية الجاذبية المكتشفه من اربع قرون وما اتى من تطور مبني عليه والسؤال هل كان سيحدث التطور نفسه ان جرى تحييدا لنظرية الجاذبية.مسالة فصل الدين عن الدولة ايضاكاذبة فهل تقبل اي دولة غربيه ان يترأسها مسلم؟ قطعا لا.المسألة الأهم هي ان صاحب الكتاب غربي الهوى ونصف علمه من الغرب ونصفه الآخر جاهل بالشرق فمثلا خذوا العنوان"مقاربة سوسيولوجية معرفية"فماكان يضيره لو كان يعرف طبعا وليس جاهلا ان يكون العنوان"مقاربة اجتماعية او مجتمعية معرفية" ام انو كل فرنجي برنجي.